شوف تشوف

الرأي

الكاتب والباحث والمثقف.. تدقيقات مفهومية

عبد الإله بلقزيز

على مثال الخلط بين مفاهيم الثـقافة والمعرفة والإيديولوجيا، لدى كثيرين ممن يستخدمونها في الكتابة ويتداولونها في المناقشات، يقع خلط ورديف بين مفاهيم المثقف والكاتب والإيديولوجي والعارف (أو منتج المعرفة/ الباحث)، فيُعبر بها، أحيانا، وكأنها مرادفات أو كأن المسافة بينها تُجَاز لغويا على نحو مشروع كما نَجُوز المسافة الاصطلاحية، مثلا، بين العلوم الطبيعية والعلوم التجريبية.
والحال إن الفوارق بين هذه المفاهيم كبيرة؛ لأن كلا منها ينتمي إلى دائرة من الوعي أو من الفعالية الذهنية مختلفة. قد تتقاطع معاني هذه المفاهيم في أفعال معلومة، بل قد تجتمع في الشخص المفكر الواحد؛ ولكن لا في الفعل الذهني الواحد عينه، الذي يقوم به، وإنما في ممارسات ذهنية متعددة ومستقل بعضها عن بعض، من دون أن يكون في حضورها المتمايز في الوعي الفردي – أي متباعدة – دليل اضطراب أو تناقض.
ما كل كاتب مثقف؛ فقد يكتب أو يمتهن صنعةَ الكتابة، وربما يبلغ فيها شأوا عظيما من دون أن يحمل صفة المثقف؛ فللمثقف ميسم خاص يسم فعاليته – كما سنقف على ذلك في فقرة لاحقة – ويتميز به من سائر من يشتركون معه في العمل الذهني. وما كل كاتب باحث؛ فليست الكتابة فعل بحث إلا في شكل خاص منها ينطبق عليه وصف البحث، فيما الكتابة والتأليف والإنتاج الثقافي أوسع دائرة من البحث الذي هو فيها صعيد خاص. ولكن، أيضا، ما كل باحث مثقف، وقد يفني الباحث عمره في البحث من دون أن يظفر، يوما، بصفة المثقف؛ هذه التي لا تكون له إلا إذا أضفى معنى محددا على عمله كباحث، أو وجه عمله البحثي الوجهة التي لا تكون المعرفة، دائما، غايتها الوحيدة الحصرية.
أن يكون هؤلاء، جميعا، غير المثقف يقضي بأن يكون المثقف، بدوره، غيرهم. فمن عساه يكون، إذن؛ وبم يختلف عن سائر هؤلاء الذين يقاسمونه العمل الذهني؟
المثقف هو ممارس العمل الذهني الذي يسخر ثقافته لأداء أدوار اجتماعية أو وطنية أو إنسانية لا تكون المعرفة و«الحقيقة» في جملة المهدوف إليه فيها. قد يكون أديبا أو فنانا أو باحثا، لكنه لا يكتفي بإنتاج الأثر الثقافي أو الفكري الذي يتخصص فيه، وإنما يزيد على ذلك بإبداء رأي في القضايا العامة وإعلان موقف فيها، أو الانحياز إلى موقف بعينه والدفاع عنه. هذا تعريف المثقف الذي استُقر عليه منذ ظهر المثقفون كفئة اجتماعية. وتكثف هذا المعنى وترسخ مع تمييز أنطونيو غرامشي بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي، مما فتح الباب أمام ميلاد مفهوم الالتزام مع جان بول سارتر.
غير أن العوار في هذا المفهوم أن المثقف قد يفيد معنى الداعية. والداعية ليس، دائما، من ينصب نفسه للدعوة بمعناها الديني المألوف، بل هو كل من يتأبط قضية ويتفرغ للدعوة إليها ولو كانت مدنية: مثل الحرية، أو الديمقراطية، أو الثورة الاجتماعية، أو المساواة بين الجنسين إلخ. وليس معنى ذلك أننا نجادل في شرعية الدعوة إلى هذه المبادئ والمطالب، التي هي قضايا عامة وعادلة؛ ولا نستكثر على الكتاب والأدباء والفنانين والباحثين أن يناضلوا عنها، بل نقصد إلى القول إن النضال الأجدر عنها هو الذي يتجسد في أثر ثقافي أو فكري منجز، أي يتحقق عبر المعرفة. أما توقيع بيان أو عريضة، أو المشاركة في تظاهر عام أو اعتصام، أو الانتساب إلى حزب أو نقابة أو جمعية مدنية وما شاكل، ففعل لا يمارسه هؤلاء (الكتاب والأدباء والفنانون والعلماء والباحثون) بوصفهم مثقفين، بل من حيث هم مواطنون؛ تكفل لهم المواطنة ممارسةَ هذه الحقوق المدنية والسياسية.
انتقدنا، بشدة، هذا المفهوم السائد للمثقف في كتابنا «نهاية الداعية»، ودافعنا عن مفهوم جديد للالتزام هو ما أطلقنا عليه اسم الالتزام المعرفي. لا يعني هذا الالتزام تطليق القضايا العامة والانصراف عنها، بل بناء معرفة رصينة بها. لا يضيف المثقفون، جميعا، بأجسادهم شيئا إلى مسيرة شعبية أو تظاهرة عامة أو نقابة؛ عصارة وعيهم ومعارفهم في القضايا العامة هي التي تخدم النضال من أجل تلك القضايا، وهي ما يزيد في رصيد الممارسة الجماعية من أجلها.
عود على بدء: ليس كل ذي قلم مثقفا. الأديب، والفنان، والباحث، والعالم المنصرف عن الشأن العام، المنصرف إلى صنعته الأدبية والعلمية، ليس مثقفا، بل منتج ثقافة رمزية أو تجريدية أو تجريبية. المثقف من يستدخل هذا الشأن العام في ميدان عمله الثقافي والعلمي. ولكن من يكتفي بأن يوقع بيانا أو ينضوي في حركة سياسية أو ينزل في تظاهرة لا يكفيه ذلك ليكون مثقفا، وهو – في هذا – يشبه «نقيضه» الآخر المُعْرِض عن الشأن العام. على أن المثقف الحق؛ المثقف المطلوب هو ذاك الذي لا يكتفي بالانغماس في شأن من طبيعته أنه إيديولوجي (يتعلق بمصلحة عامة)، بل ذاك الذي ينجح في تحويل الشأن الإيديولوجي إلى شأن معرفي؛ أي قابل لإنتاج معرفة حوله… بها يقع التقدم في إحراز المهدوف منه.

المثقف هو ممارس العمل الذهني الذي يسخر ثقافته لأداء أدوار اجتماعية أو وطنية أو إنسانية لا تكون المعرفة و«الحقيقة» في جملة المهدوف إليه فيها. قد يكون أديبا أو فنانا أو باحثا، لكنه لا يكتفي بإنتاج الأثر الثقافي أو الفكري الذي يتخصص فيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى