القــــرآن والتـــــاريخ (1- 4)
بقلم: الدكتور خالص جلبي
لا يوجد كتاب اعتنى بالتاريخ وسننه واعتبره مصدرا للمعرفة مثل القرآن، ولا يوجد كتاب في تاريخ الجنس البشري أكد على مفهوم القانون وسنة الله في خلقه كما فعل القرآن. ولا يوجد كتاب وقف عند حوادث تاريخية بعينها، يتكئ عليها ويستفيد، مثلما جاء في القرآن. ولا توجد أمة لم تستفد من كل هذه الثروة العقلية كما فعل المسلمون، في استعصاء عقلي عنيد غير مفهوم وغير مبرر ولا عقلاني جدا، حركها من خانة الدول المتقدمة والعظمى والمركزية، إلى خانة دول التخلف والقاع والاتباع والمحيط والأطراف، في لغز يحتاج فك طلاسمه إلى بحث تاريخي عقلاني موسع، لاكتشاف بدايات الخلل.
ثلاثة مفاهيم تأسيسية:
ـ (1) اعتبر القرآن أولا التاريخ ليس مجرد حوادث تائهة طائشة عشوائية، لا يلضمها خيط ولا ينتظمها قانون، بل نظر إلى التاريخ أنه تدفق وصيرورة، تمسك حركته مفاصل سننية، وتنير طريقه واتجاهه نواظم كونية غائية عظمى.
ـ (2) واعتبر القرآن ثانيا التاريخ مصدرا للمعرفة، تماما مثل الطبيعة والنفس، فهذه الحقول الأولية هي كلمات الله الأساسية، والنسخة الأصلية من كلمات الله، التي لا تقبل التزوير، والتحريف والتبديل والتأويل المضطرب والتفسير اللاعقلاني؛ فصخرة أو جبل، شجرة أو نهر، هرم فرعوني أم سور الصين، نقش مسماري أم هيكل عظمي، أدل على نفسه بنفسه من أي نص كتب عنه، مهما كان مصدره.
ـ (3) وثالثا وقف القرآن أمام أحداث تاريخية بعينها، يعتمدها كمقارنة؛ بين ما يولد من بطون الأيام الحبالى، وما بين الحق الذي جاء به. هذا العرض المقارن يفتح الطريق أمام علوم قرآنية قد قصر العالم الإسلامي حتى اليوم في تأسيسها، لأنه شخر عبر القرون، وانفك عن الواقع. فكما رسخت ورست واستوت علوم من أمثال القراءات والتجويد والأحكام والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، فإن الطريق لم تعبد بعد أمام دراسات من طراز الدراسات التاريخية القرآنية المقارنة، التي سنشرح طرفا من طبيعتها في نماذج قادمة. وهكذا فإن ينابيع القرآن المعرفية لن تنضب في شق الطريق إلى فضاءات معرفية متجددة.
التاريخ يتحرك وفق قوانين نوعية
التاريخ إذاً يتحرك وفق قوانين نوعية، والتاريخ مصدر للمعرفة، والتاريخ دراسة مقارنة؛ فهذه محطات عقلية تأسيسية للمعرفة ومفاتيح كبرى لحركة تجديد العقل الإسلامي، وإضاءة القرآن على نحو غير متوقع. هذا التوجه في القرآن كمفتاح لبناء العقل السنني، وتوليد العقل الاستدلالي، وتهميش وتحييد الأسطوري والخارق والخلاب، ودخول الباب لفهم أحداث التاريخ وفق قوانين تحمل إمكانية وكمونية التكرار في سياق كوني منتظم، والإشارات القرآنية لأحداثٍ تشكل مفاتيح لفهم حركة التاريخ الإنساني بانعطافاتها المصيرية، في مثل قصة يوسف في القرآن، والعصر الذي عاش فيه، ولماذا استخدم القرآن لفظ «الملك» ولم يستخدم لفظ «فرعون»، ومن مثل الهزيمة العسكرية الساحقة التي مني به الفرس، في مطلع الربع الأول من القرن السابع الميلادي، في سلسلة تطاحن عسكري، من نوع الحروب العالمية في العصر القديم، يجعلنا نفهم لماذا وفي هذا الوقت بالذات وفي هذا المكان بالتحديد، في فك أسرار التساؤلات العقلية الخمسة لماذا؟ كيف؟ متى؟ أين؟ ومن؟
الدقة في التقدير الميتافيزيقي التاريخي
لماذا يبزغ عصر الإسلام في هذا الوقت والمكان على وجه الدقة؟ في تقدير ميتافيزيقي؛ يجلي التاريخ بعضا من أسراره بعد حين، فلو انبثق الإسلام قبل قرن من ولادته لعاصر قوى مختلفة وإمبراطوريات متماسكة نسبيا. لا نستطيع أن نفهم شروق شمس الإسلام بدون فهم تاريخي «راداري» معمق، يعرف أن خروج الإسلام في هذه اللحظات التاريخية، سوف يواجه إمبراطوريات محطمة واهنة، استنزفتها حروب مدمرة، فقام الإسلام يكنس بقايا حطام الإمبراطوريتين في الشرق الأوسط، أكثر منه مواجهة هذه القوى. لا يمكن فهم مثل هذه الأمور بدون التشبع بالوعي التاريخي، وإن العرض الذي قام به المؤرخ البريطاني، توينبي، في كتابه «تاريخ البشرية» يعطي تصورا عن الوضع، بحيث يمكن فهم دلالة الآية القرآنية: «الله أعلم حيث يجعل رسالته»، فهذه التساؤلات تفتح الطريق لإدراك انعطافات التاريخ المصيرية.
في مواجهة أعظم حضارة في العصر القديم
تشكل قصة موسى عليه السلام نموذجا مختلفا، وهو يواجه أعظم حضارة في عصره: أمريكا العصر القديم، وهو واضح التصور ودقيق العبارات مع فرعون، أنه لا يريد تغيير المجتمع المصري أو التبشير فيه، وكان يمكنه أن يفعل ذلك، فهو صاحب رسالة. كانت كلماته واضحة وعباراته مقتضبة، أن أرسل معي بني إسرائيل. ليس لأن سدس الشعب المصري، الذي هو كتلة الشعب العبراني، في أسفل قاع المجتمع يؤدي دور الآلة العضلية للإنجاز الحضاري بتنظيم عقلاني فرعوني. أقول ليس لأن موسى عليه السلام يتوقع منه إذا خرج به من أرض مصر، سيكون ذلك الشعب وتلك الأمة التي يبني عليها الآمال. إن موسى أوعى من أن يقع في مثل هذا الفخ، مع جيل اعتاد ضرب السياط على ظهره، وأخلاق العبودية. إن هدف موسى لن يظهر واضحا في مصر، بل سيكشف عنه النقاب بعد العبور، ومشاكله من صناعة عجل الذهب، والتعدي على هارون أخيه، وارتكاب الفواحش، والحنين الدائم إلى رائحة البصل والثوم المصري، فجهازهم الهضمي لم يتعود الطعام المريء الممتلئ بالبروتين والعسل «المن والسلوى»، بل ما زالت الأمعاء معتادة على الخضروات المصرية مثل أخلاق الأرانب تماما. كما لم ينفعهم سيل المعجزات التسع في مصر، ولا تشقق الصخر في الصحراء فيخرج منه الماء، أو تحريك السحب والغمام تظللهم من حر شمس صحراوية لاهبة.
نافذة:
اعتبر القرآن أولا التاريخ ليس مجرد حوادث تائهة طائشة عشوائية لا يلضمها خيط ولا ينتظمها قانون بل نظر إلى التاريخ أنه تدفق وصيرورة