القصة المنسية لقانون مزارع العنب
عندما رخصت فرنسا لرعاياها بإنتاج الخمور دون علم المغرب
يونس جنوحي
رغم أن هؤلاء الفرنسيين استخدموا فلاحين وعمالا مغاربة في أشغال رعاية محاصيل العنب والأعمال الزراعية والفلاحية المرتبطة بإنتاجه، إلا أن موضوع تسويق الخمور واستهلاكها كان دائما خاضعا لتوجيهات المسؤولين الفرنسيين، حتى لا تقع اعتداءات على هؤلاء الرعايا الأجانب في المغرب.
لكن رغم كل الاحتياطات، فإن قانون زراعة العنب وتعتيق الخمور في المغرب رافقته أحداث دامية سقط خلالها ضحايا فرنسيون وأجانب، وظلت الحانات الفرنسية حتى بعد ظهور قوانين جديدة في المدن المغربية، دائما هدفا للمقاومين المغاربة.
++++++++++++++++++
«المخزن» لم يكن له أي علم بقوانين زراعة العنب
في سنة 1912، لم يكن للسلطان مولاي يوسف أي علم بالقوانين التي تضعها فرنسا لرعاياها. إذ باستثناء الظهائر التي تهم المغاربة وتعيينات السلطان، حسب اختصاصاته المخزنية، فإن المخزن لم يكن له أي علم بالترسانة القانونية التي كانت فرنسا تؤسس لها في المغرب، لحماية رعاياها الفرنسيين.
كان لدى المولى يوسف مستشارون كثر، أبرزهم الحاج المقري، ذو الأصول الجزائرية. هذا الأخير كان على اتصال دائم بالإدارة الفرنسية التي يوجد المارشال ليوطي على رأسها.
لكن المشكل أن هذه الإدارة لم تكن تتصل بديوان المولى يوسف لاستشارته أو الحصول على موافقته، عندما يتعلق الأمر بقوانين تسنها فرنسا لحماية رعاياها في المغرب.
في ذلك التاريخ، كان ميناء الدار البيضاء في طور التجديد، وكانت المدينة كلها تُبنى من جديد، تشرف فرنسا على كل الأشغال بما في ذلك تأسيس الإدارات.
وهكذا فإن استيراد الخمور لم يكن مشكلا مطروحا أبدا كما كان قبل سنة 1912، إذ إن إدارة الميناء كانت مكونة من فرنسيين.
كان لدى المولى يوسف مستشارون مقربون، بينهم فقهاء وعلماء من القرويين. وهؤلاء، بالإضافة إلى السلطان، كان موقفهم مما يجري في المغرب واضحا، لكن معاهدة الحماية كانت تطوق كل مناحي الحياة السياسية في المغرب الجديد.
بالنسبة إلى أعوان المخزن الذين كانوا متواطئين مع فرنسا، فإن معلومة من هذا النوع ما كانت لتعرف طريقها إليهم، خصوصا وأن استيراد الخمور الفرنسية إلى المغرب لم يكن معنيا به غير المواطنين الفرنسيين. لكن المثير أن ما تلا الاستيراد، هو بناء الحانات، لتنتشر بشكل مهول في كل من الدار البيضاء، مراكش، فاس ومكناس، ثم إلى بقية المدن تدريجيا.
حتى أن مدينة مثل ورزازات لم تصل إليها الحانات، إلا بعد وصول القوات الفرنسية إليها سنة 1919.
وحسب ما يؤرخ له الأرشيف العسكري الفرنسي، فإن إمداد الثكنات بالخمور كان تحديا كبيرا للجيش الفرنسي، حتى أن القوات الفرنسية كانت تحمل معها إلى جانب الأسلحة، صناديق محملة بكميات من الخمور، للحفاظ على اللياقة النفسية للجنود، سيما عندما يكونون في مهام عسكرية طويلة الأمد، ويكون عليهم قضاء أشهر متواصلة في الثكنات المعزولة، والبعيدة جدا عن الدار البيضاء.
وما وقع أن السلطات المغربية، ممثلة في أفراد جهاز المخزن، لم يكن لهم أي علم بالتطورات التي تباشرها فرنسا في المغرب.
إذ إن علماء القرويين كانوا قد أصدروا سلسلة فتاوى تحرم على المغاربة استهلاك الخمور التي انتشرت بكثرة مع توافد الفرنسيين، خصوصا وأنها كانت تقدم في الفنادق التي بناها الأجانب في المدن، وحرموا أيضا الاشتغال في المنازل التي تقدم فيها الخمور، لكن الأمر كان أكبر من أن تتم السيطرة عليه تشريعيا، سيما وأن فرنسا لم تكن تعترف بالقوانين المغربية، وعملت منذ دخولها رسميا إلى المغرب على ضمان توفير ترسانة قانونية فرنسية تسري على رعاياها الفرنسيين.
عندما كان استهلاك الخمر محرما بالمطلق على المغاربة
منذ عهد المولى إسماعيل، أي منذ سنة 1672، كان موقف الدولة من استهلاك الخمور يثير استغراب الأجانب.
إذ كان معروفا وقتها أن اليهود المغاربة وحدهم من يستهلكون الخمور، وكانت العقوبات مشددة على المسلمين الذين يثبت أنهم يتعاطون المشروبات الكحولية.
المثير أن شهادة أحد الأسرى الفرنسيين، الذين وقعوا في الأسر أثناء رحلة بحرية، اقتيد إلى مكناس، في عهد المولى إسماعيل، وكان المغرب وقتها يستعمل الأسرى في أشغال بناء قصر السلطان.
وهذا الأسير، المعروف تاريخيا بالأسير مويط، دون مذكراته باللغة الفرنسية بعد عودته إلى بلاده من الأسر في عهد المولى إسماعيل دائما، وتُرجمت لاحقا إلى اللغة العربية.
وجاء فيها ما يلي: «عندما جاء ذلك الأمير يوما ليرى هدم الأسوار القديمة، تعجب من كون المسيحيين يتابعون العمل ببطء كبير، فسأل من كان معه عن السبب، فقال له القائد زيدان إن المسيحيين تعودوا في بلادهم على شرب الخمر وماء الحياة، وبما أنهم الآن لا يشربون إلا الماء، ولا يأكلون إلا الخبز، ارتخت أعضاؤهم وأصبحوا غير قادرين على القيام بالعمل الشاق. فإذا أراد أن تسره رؤيتهم وهم يعملون جيدا، فما عليه إلا أن يأمر بإعطائهم ملء ثلاث أو أربع طاسات من الخمر لكل واحد، وسيرى أنهم يعملون بكيفية أخرى. بدأ الملك يضحك وأرسل في طلب شيخ اليهود، وأمره بإحضار أربع جرات كبيرة من الخمر. وبعد أن وزعت على الأسرى، ذهب الملك يتفسح. ولما رجع اندهش لرؤية المسيحيين يتقدمون في العمل، أثناء الساعتين اللتين قضوهما قبل عودته أكثر مما عملوه طيلة ثلاثة أرباع النهار. لذلك أمر الملك اليهود بتزويد المسيحيين كل أسبوع بعشرة قناطير من الزبيب ومثلها من التين، ليصنعوا ماء الحياة. إلا أنه حظر عليهم بيعها أو إعطاءها للمسلمين، تحت طائلة عقوبات مشددة. كان ذلك هو الوقت الذي عين فيه الدون بيدرو رئيسا للأسرى، وقتله بدعوى أنهم خالفوا أوامره».
السماح للأسرى باستهلاك الخمور، كان يعني أنه كان محرما على المغاربة استهلاكها في أي ظرف.
وقد سجلت شهادات تاريخية كثيرة معلومات عن عقوبات سجنية للمغاربة المسلمين، الذين يثبت استهلاكهم للخمور. حتى أن أحد القواد في عهد المولى الحسن الأول توعد أحد المغاربة المسلمين الذي كان معروفا بصناعة مشروبات كحولية، سُمح له بتحضيرها على أساس بيعها إلى اليهود المغاربة الذين كانوا يستهلكونها في مناسباتهم الدينية، لكن القائد توصل بمعلومات من مخبريه، تؤكد أن هذا الرجل يبيع ما ينتجه إلى المغاربة المسلمين أيضا، وليس اليهود فقط. وهو أمر كان معروفا في عدد من مناطق المغرب، التي كان يتعايش فيها المغاربة يهودا ومسلمين، لكن العقوبات تكون مشددة على المسلمين الذين يثبت استهلاكهم للخمور.
ومع فرنسا تغيرت الأمور كثيرا، وقطعت قوانين الترخيص لمزارع العنب، ثم للحانات، أشواطا تاريخية كبرى.