القصة المنسية لإعدام الحنصالي رميا بالرصاص
تفاصيل 22 شهرا لثورة «بين الويدان» المنسية
«كان فبراير 1953 شهرا حزينا في المغرب، بعد إعلان قرب بداية محاكمة الحنصالي، التي انطلقت يوم 10 فبراير وانتهت في ستة أيام، أراد خلالها الفرنسيون أن يطووا القضية بسرعة ويصدروا قرار الإدانة، والتي خططت لها فرنسا لكي تكون ما يشبه رادعا للشبان الآخرين، حتى لا يتم إحياء مقاومة الحنصالي.
وهكذا كانت رحلة الحنصالي من الأطلس المتوسط إلى المحكمة العسكرية في مدينة الدار البيضاء، حيث جرت أطوار المحاكمة، أطول رحلة في حياته. والتي كانت نهايتها في مقبرة بن مسيك في الدار البيضاء، حيث لا يزال قبره موجودا هناك إلى اليوم، رغم اختلاف روايات تحديد موقعه بدقة».
يونس جنوحي:
اليوم الذي بكى فيه سكان الأطلس المتوسط
لم يكن هناك من حديث في بني ملال ونواحيها إلا عن الحنصالي. شاب بقسمات رجل شيخ، هكذا يمكن وصف الشهيد أحمد الحنصالي. إذ إنه عندما بدأ أولى عملياته الفدائية ضد الاستعمار الفرنسي، لم يكن عمره وقتها يتجاوز نهاية العشرينات، لكن قسمات وجهه كانت تضلل كل من ينظر إليه، فقد كان يبدو أكبر من سنه بكثير. والسبب أنه عاش حياة غاية في القساوة. بالإضافة إلى أنه كان يتيم الأبوين، فقد سبق له الاشتغال في الأنشطة الفلاحية القاسية، من رعي وحرث لأراضي الفلاحين في قريته. تنقل بين ضواحي «أحنصال»، واستقر في قراها موزعا أيامه بين العمل في الحقول، ورعي الغنم لأيام لم يكن يرى فيها أحدا.
هكذا يتذكره أقرباؤه. أما الوطنيون ممن عاصروه، في الأطلس المتوسط، فيُجمعون على أنه لم يكن كثير الكلام، ولم يكن يتحدث لأحد عن ذكرياته ولا عن طفولته البئيسة التي طبعها الجوع وشظف العيش. بل إن الحنصالي لم يكن من المقاومين الذين يجمعون حولهم أعضاء خلية أو تنظيم. فقد فاجأ هذا المقاوم الجميع عندما بدأ أولى عملياته وحيدا، حيث قرر الإجهاز على مخزني مغربي، كان معروفا بمرافقة أعضاء الجيش الفرنسي، أثناء عمليات الاعتقال والمداهمات، وإجبار القرويين على دفع إتاوات قبل ولوج السوق الأسبوعي، حتى في سنوات الجفاف التي لم يكن يجد فيها أولئك البسطاء ما يبيعونه لسد جوع أبنائهم.
ومنذ اغتيال الحنصالي لذلك المخزني، وسقوط جثته على الأرض ليكون عبرة للمتعاونين مع فرنسا، أصبح الشاب مطلوبا للأمن الفرنسي، قبل أن تتكرر عملياته ويصبح بمعية بعض الشباب الذين تجندوا للالتحاق به، مطلوبا باعتباره إرهابيا خطيرا. وتوزعت مذكرات البحث ضده، رغم أن الفرنسيين لم يكونوا يتوفرون على أية صورة له، لكنهم زرعوا مخبريهم من المنطقة، والذين كانوا يعرفون الحنصالي جيدا. إلا أنه تنكر أكثر من مرة في هيأة راعي أغنام، واستطاع أن يضرب مخازن السلاح التابعة للجيش الفرنسي وأقبية الشرطة، وأردى عددا من المعمرين الفرنسيين قتلى في الشوارع.
حتى أنه عندما سقط في قبضة الأمن الفرنسي سنة 1951، بعد 22 شهرا على أول عملية له، ونقل إلى الدار البيضاء تمهيدا لمحاكمته، بكاه أبناء منطقته، لأنهم كانوا يرون فيه المتمرد الأكثر شجاعة في مواجهة سياسة فرنسا في الأطلس المتوسط، خصوصا الفلاحين الذين صودرت أراضيهم، ومُنحت للمعمرين الفرنسيين لاستغلالها وتشريد أصحابها الحقيقيين.
كواليس 11 جلسة لمحاكمة انتهت بحكم الإعدام
كان رئيس المحكمة العسكرية يُدعى السيد «كاريال». وهو الاسم الذي تكرر في محاضر الإقامة العامة الفرنسية كثيرا، بحكم أنه «الساهر» على إغراق الحنصالي ومن معه.
تنص المحاضر على أن القاعة كانت تغص عن آخرها بالحضور، بينما كانت جحافل أخرى من الممنوعين من ولوج القاعة، تنتظر خارج المحكمة في الدار البيضاء، لمعرفة ماذا يقع في الداخل.
ما بين العاشر والسادس عشر من شهر فبراير 1953، جرت كواليس المحاكمة التي أرادت لها الإدارة الفرنسية أن تكون ضربة إعلامية لصالح الحماية.
إذ سُجل منع الصحافيين الذين كانوا يعملون لصالح صحف مستقلة من الإدارة، أو المتعاونين مع الصحافة الدولية غير الفرنسية، من حضور الجلسات، وتم الاكتفاء بالصحافيين الذين كانوا يعملون لصالح المنابر التابعة للإدارة، والتي ينحاز خطها التحريري لصالح الإقامة العامة. كما مُنع أيضا الصحافيون المغاربة الذين كانوا يعملون في صحف ناطقة بالعربية، أو في مقر الإذاعة بالرباط، من حضور الجلسات.
سُمح لكل العائلات الفرنسية التي فقدت أحباءها أو المتعاطفين معهم من فرنسيين، لكي يدخلوا إلى القاعة ويملؤوا المقاعد الأمامية. فيما حضر أيضا عسكريون بزي الخدمة العسكرية، لكي يدلوا بشهاداتهم ضد الحنصالي على خلفية العمليات التي نفذها ضد مخازن السلاح في الأطلس المتوسط.
ومما نقله أرشيف المحاكمة، أن الفرنسيين كانوا حريصين على إحضار أرملة مخزني مغربي كان أحد أوائل الذين خطط الحنصالي لاغتيالهم، على اعتبار أنه كان متعاونا مع الحماية الفرنسية. وكان مخططا أن يتم استعمال السيدة إعلاميا، وإصدار شهادتها في الصحافة لحصد مزيد من التعاطف مع الضحايا، واعتبار الحنصالي إرهابيا.
تناقلت الصحافة الفرنسية معلومات تتعلق بالحالة الجسدية والنفسية للحنصالي، وكانت قاسية جدا معه، رغم أن أغلب تلك الصحف لم تنشر صورته لاعتبارين، الأول أن أغلب الصحف التي كانت تصدر في الدار البيضاء والرباط سنة 1953 لم تكن توظف الصور في مقالاتها، لأن نشر الصور بجودة تبين ملامح الحنصالي كان مكلفا جدا، وثانيا لأن الإدارة لم تكن تريد أن تصنع من الحنصالي بطلا قوميا، لأن نشر صورته على نطاق واسع قد يجعل الوطنيين يروجون لها بقوة ويحصدون تعاطفا كبيرا معه.
في حين أن طرحا آخر كان يذهب إلى القول إن الحنصالي تعرض لتعذيب شديد، أثناء استنطاقه على يد مغاربة يتولون تنفيذ أوامر الأمنيين الذين أشرفوا على التحقيق في الدار البيضاء، ولم تكن المحكمة تريد لصور الحنصالي بعلامات الضرب والتعذيب أن تُنشر، إلا بعد أن تزول آثار الكدمات. وفعلا كانت الصورة التي احتفظ بها الأرشيف الفرنسي وتم تداولها بعد سنوات على إعدام الحنصالي، لا تكشف وجهه بدقة مثل أغلب المعتقلين المغاربة. إذ إن الصورة المتداولة التُقطت، أثناء المحاكمة، ولم تقتصر على وجه الحنصالي، بل ركزت على إظهار يديه وهو في حالة اعتقال. أي أن الصورة كانت رسالة إلى الوطنيين ووعيدا، بأن يلقى كل من يقلد الحنصالي المصير نفسه.
بكى أهالي الضحايا الذين ماتوا في عمليات الحنصالي، ورغم أنه كان يردد خلال محاكمته أنه نفذ عملياته ضد الاستعمار وضد سياسة فرنسا في المغرب، وانتقاما للمغاربة الذين فقدوا حياتهم وأراضيهم على يد الجيش الفرنسي والمعمرين، إلا أن المحكمة ظلت تعتبره إرهابيا، وتركز أكثر على نقل إفادات عائلات الضحايا. بل حرصت المحكمة على إحضار بعض المعطوبين الذين كانوا لا يزالون يحملون آثار الإصابات، وقدموا للرأي العام على أساس أنهم ناجون من عمليات الحنصالي، حيث أكدوا جميعا أنهم رأوه وهو ينفذ العمليات، ما بين إطلاق للرصاص أو اعتداء بالضرب على معمرين فرنسيين.
استعانت المحكمة بمترجم من الأمازيغية إلى الفرنسية لترجمة أقوال الحنصالي، رغم أن أغلب من في القاعة كانوا جاهزين لإدانته، دون معرفة فحوى إجاباته، أو مرافعته عن نفسه قبل الحُكم. في حين أن محامين فرنسيين، اشتراكيين، نصبوا أنفسهم للدفاع عنه، باحثين عن نقاط تُجنبه حكم الإعدام، وتخفيفه في أسوأ الحالات إلى المؤبد. لكن الحالة التي كانت تمر بها البلاد، كانت تحتاج إلى كبش فداء يطفئ غضب المعمرين الفرنسيين في المغرب، ويواجه حدة التمرد ضد الحماية.
كان اسم المحامي الفرنسي «شارل دو كراف» يتردد كثيرا في المحاضر، باعتباره محامي الحنصالي. وقد ظل لسنوات وهو يتنقل بحذر، مخافة أن يطاله انتقام المجموعات الفرنسية اليمينية المتعصبة، إذ لم يتقبلوا أن ينبري محام فرنسي من بلادهم لكي يدافع عن مُتهم بتنفيذ عمليات حصدت أرواح مواطنين فرنسيين في المغرب.
اشتهرت هذه المحاكمة بأنها الأطول، رغم أنها لم تعمر أكثر من أسبوع. إذ إن أطوارها انطلقت في العاشر من فبراير 1953 على الساعة التاسعة صباحا، وانتهت في مساء 16 فبراير. ستة أيام بساعات جلسات طويلة جدا أُرْهِقَ خلالها الجميع، واشتكى الموظفون من طول الساعات وطول المداخلات والشهادات والإفادات. وكان متعمدا جعل الحنصالي واقفا لساعات، دون أن يُمنح حق الجلوس إلى كرسي عند سماع إفادات الضحايا وعائلاتهم، أو أثناء مرافعات ممثل الحق العام الفرنسي. عندما صدر الحكم القاضي بإعدام الحنصالي رميا بالرصاص، لم يُنفذ، بل اقتيد المدان إلى الزنزانة الانفرادية لكي يفصل عن بقية زملائه. وعندما أوشك المغاربة على بداية نسيان قضيته، متوقعين أن يتم تخفيض الحكم مثل ما وقع مع وطنيين آخرين، فوجئوا بالإدارة الفرنسية تنفذ حكم الإعدام، بعد شهرين وبضعة أسابيع على نفي السلطان محمد بن يوسف، وهو ما زاد من حالة الحزن التي كانت وقتها سائدة في المغرب.
+++++++++++++++++++++++++++
عُمر المختار المغرب؟
رغم أن عمر المختار الذي قاوم الاحتلال الإيطالي في ليبيا، يمثل رمزا كبيرا لمقاومة الاستعمار، إلى جانب امحمد عبد الكريم الخطابي، باعتبار أنهما مثلا نموذجا لمقاومة الاستعمار بداية القرن العشرين، إلا أن نهاية الشهيد المغربي أحمد الحنصالي تجعله يتشارك مع عمر المختار في النهاية نفسها. فرمز المقاومة الليبية الذي وصل إلى العالمية نُفذ فيه الإعدام بعد محاكمته شنقا. أما الحنصالي فقد كانت محاكمته أسطورية، ونُفذ فيه حكم الإعدام رميا بالرصاص.
كانت عملية إعدام الحنصالي ومعه رفيقه محمد ولد سميحة، إحدى أولى العمليات التي خلفت استياء واسعا في صفوف الوطنيين وقدماء المقاومة، الذين كانوا وقتها حديثي الانضمام إلى الخلايا السرية، وخلفت الواقعة يوم 26 نونبر 1953، تعاطفا واسعا جدا مع الحنصالي في أوساط المغاربة.
ما جعل إعدام الحنصالي «لا يُنسى» أنه تزامن مع بداية «الغم» المغربي، بعد نفي السلطان محمد بن يوسف، وإحلال بن عرفة ليجلس على العرش. إذ إن المغاربة ما كادوا يستفيقون من صدمة ترحيل السلطان محمد بن يوسف في غشت من السنة نفسها، حتى فوجئوا بتنفيذ حكم الإعدام في حق الحنصالي، وهو الحكم الذي ظل مجمدا منذ صدوره يوم 16 فبراير.
كان الجو السائد وقتها في محور الدار البيضاء أن حكم الإعدام في حق الحنصالي لن يُنفذ، وأن التوتر بين السلطان والإقامة العامة سوف يكون مصيره أن يُدفن، ويُعلن عن عفو، أو تخفيف لعقوبة الإعدام الصادرة في حق الحنصالي ومحمد ولد سميحة.
لكن الأزمة بدل أن تعرف انفراجا على سائر أزمات أخرى مع جالسين سابقين في الإقامة العامة، توترت الأمور إلى حد لم يعد معه ممكنا وجود السلطان محمد بن يوسف، والمقيم العام الفرنسي في المدينة نفسها.
مدينة واحدة لا تحتمل وجود السلطان برمزيته الدينية، والمقيم العام بصفته منفذا لبنود الحماية. لذلك بدل أن يرحل المقيم العام كما سبق لفرنسا أن دبرت به الأمور، حكمت الإدارة بأن يرحل السلطان.
وطوال الأشهر الفاصلة بين رحيل السلطان محمد بن يوسف في غشت، وبين إعدام الحنصالي، كان هناك ترقب في أوساط المقاومين وأعضاء الحركة الوطنية، لأن الأمور كانت فعلا تُنذر بالأسوأ، سيما بعد أن قررت فرنسا تغيير نهج سياستها الأمنية لحماية «خُدامها» الجدد، وأيضا لأن تقارير الأمن الفرنسي سجلت ارتفاعا كبيرا في عدد حالات ما أسمته «الاعتداء» على مواطنين فرنسيين وأوروبيين في شوارع عدد من المدن والمناطق المغربية، التي كانت إلى وقت قريب لا تُسجل فيها أي حالات اعتداء على الأجانب.
هذا الغليان الذي عرفه الشارع المغربي بعد نفي السلطان محمد بن يوسف، والذي وصل حد عدم إحياء أغلب المغاربة لعيد الأضحى في تلك السنة، حُزنا واحتجاجا على نفي السلطان الشرعي للبلاد، كان لا بد أن تواجهه الإدارة الفرنسية بمزيد من الحزم، وارتفعت وتيرة الاعتقالات، وصارت أقبية مراكز الشرطة الفرنسية تعج بالمقاومين والشبان المشتبه في انتمائهم إلى الخلايا السرية.
لكن ما فكرت فيه الإدارة الفرنسية، كان أكبر من مباشرة موجة اعتقالات واسعة قد يكون لها مفعول عكسي، بل قررت أن تُعدم الحنصالي يوم 26 نونبر 1953، ذات صباح حزين، رغم أنه اعتُقل منذ 23 يوليوز 1951. ماذا كان وراء الحنصالي حتى انتقمت منه فرنسا بهذه الطريقة؟
قصة رحلة من «أحنصال» إلى محكمة الدار البيضاء..
الشهيد أحمد أحنصال، ينتمي إلى جيل بداية عشرينيات القرن الماضي. رأى النور في ظل الحماية الفرنسية وكان من الأطفال الذين استأنسوا مبكرا بوجود فرنسيين في مناطقهم، إما في الضيعات الفلاحية، أو الثكنات التي كانت مجاورة للأسواق الأسبوعية.
تكون لديه ذاك الكُره الذي كان لدى أبناء جيله لكل ما هو فرنسي، بسبب سياسة فرنسا المتمثلة في تجريد الفلاحين المغاربة البسطاء من أراضيهم وتسليمها إلى الفلاحين المعمرين، تشجيعا لهم على الاستقرار في المغرب.
يعتبر المؤرخون أحمد الحنصالي، المقاوم الأول في منطقة الأطلس المتوسط، إذ إنه عندما كان يعيش في نواحي بني ملال، حيث قضى طفولته المبكرة يتيم الأبوين، تكون لديه ذلك الإحساس بضرورة الانتقام من الفرنسيين، العسكريين منهم على وجه الخصوص، لأنهم كانوا يجبرون أبناء منطقته على الأشغال الشاقة المتمثلة في تهييء الطرق وتعبيدها، تسهيلا لمرور عربات الجيش الفرنسي.
هناك «ثقب أسود» بخصوص مرحلة شباب الحنصالي، إذ لا تتوفر معلومات كافية عنه. والسبب أن الحماية الفرنسية أرادت طمس كل ما يتعلق بحياته وبطولاته في سنوات شبابه التي سبقت اعتقاله، لكن بدل أن يُنسى تماما، نُسجت عنه الكثير من الأساطير.
وحسب الروايات المحلية بخصوص ثورة الحنصالي المنسية، فإن أولى العمليات التي خلفت استياء واسعا في صفوف الفرنسيين، أن الحنصالي عمد في ربيع سنة 1949 إلى اعتراض سبيل سيارة كان على متنها أربعة فرنسيين، وهي في طريقها من سد بين الويدان إلى أفورار، وكانت لدى الركاب نية الوصول إلى أزيلال. لكن ما جعل الحادث غاية في الخطورة، أن الحنصالي استعمل سلاحا، وأطلق النار على اثنين من الركاب أرداهما قتيلين على الفور، بينما أصيب الراكبان في المقاعد الخلفية بجروح خطيرة.
حالة استنفار كبيرة سجلت في ذلك اليوم، الثالث عشر من ماي، إذ إن الإدارة لم تتقبل أن يتم استعمال مسدس لإطلاق الرصاص على مواطنين فرنسيين في وضح النهار، وفي قلب طريق من المفروض أن الأمنيين الفرنسيين قد أمنوا مرور العربات عبرها، ولم يسبق أبدا أن سُجل حادث مماثل في المنطقة.
كان السلاح الذي بحوزة الحنصالي غنيمة، تسلل إلى مخازن السلاح الفرنسية، حيث أخذ مسدسا ومجموعة من البنادق، وهي العملية التي تكللت بالنجاح، ووفرت له ولرفاقه الذين كانوا يعتبرونه زعيما عليهم، الذخيرة الأولى التي استُعملت في عدد من العمليات لاحقا.
اهتز الإقليم كاملا بسبب الواقعة، سيما أن حالة الجريحين كانت حرجة للغاية، وأيضا لأن الأمنيين الفرنسيين كانوا يدركون أن الاثنين نجيا بأعجوبة، فقط لأنهما احتميا بالمقاعد، بينما كان الراكبان في الصف الأول أمام طلقات الرصاص بـ«صدرين عاريين».
وحسب ما تم تداوله عن الحنصالي، فإن عملياته كانت متفرقة، وهو ما جعل أمر إلقاء القبض عليه من العمليات الأولى مستحيلا. إذ كانت المسافة الفاصلة بين العملية والأخرى تتجاوز أحيانا 150 كيلومترا. وهو ما جعل الوصول إليه مستحيلا في البداية، خصوصا أنه كان يأخذ الوقت الكافي للاستعداد للعملية الموالية، ويضرب في مكان لم يتوقع الفرنسيون أن يصل إليه.
كانت كل العمليات تتم باستعمال الرصاص، على عكس عمليات قدماء المقاومة في الدار البيضاء مثلا، حيث كان المقاومون يعملون على صناعة القنابل ودسها في مخازن ومحلات الفرنسيين، مثل قنبلة «المارشي سنطرال». ما ميز عمليات الحنصالي أنها ميدانية ومبنية على عُنصر المفاجأة، وكان يضرب ضربته ويختفي، دون أن ينجح الأمن في الوصول إليه. وكانت خراطيش الرصاص التي يتركها خلفه، تؤكد أن الذخيرة المستعملة مسروقة من المخازن الفرنسية. بينما كان الحنصالي في عدد من العمليات، يستعمل «البارود» على طريقة أجداده.
نجح الحنصالي في أن يجعل حركة المتعاونين مع فرنسا مُقيدة جدا، إذ كان خروج موظف فرنسي أو متعاون مغربي مع فرنسا، عن الأحياء السكنية، يعني اغتياله فورا على يد الحنصالي ومن معه.
وبقيت تلك الأجواء «الرهيبة» مسيطرة على الجميع لعامين، قبل أن يستطيع الفرنسيون الوصول إلى مخابئ كان يستعملها الحنصالي للاختباء وإخفاء السلاح، وظلوا يتبعون خطواته وتنقلاته إلى أن ألقي عليه القبض، بعد عامين على انطلاق ثورته. وكان فبراير 1953 شهرا حزينا في المغرب، بعد إعلان قرب بداية محاكمة الحنصالي، التي بدأت يوم 10 فبراير وانتهت في ستة أيام، أراد خلالها الفرنسيون أن يطووا القضية بسرعة ويصدروا قرار الإدانة، والتي خططت لها فرنسا لكي تكون ما يشبه رادعا للشبان الآخرين، حتى لا يتم إحياء مقاومة الحنصالي.
وهكذا كانت رحلة الحنصالي من الأطلس المتوسط إلى المحكمة العسكرية في مدينة الدار البيضاء، حيث جرت أطوار المحاكمة، أطول رحلة في حياته. والتي كانت نهايتها في مقبرة بن مسيك في الدار البيضاء، حيث لا يزال قبره موجودا هناك إلى اليوم، رغم اختلاف روايات تحديد موقعه بدقة.
محاكمة القرن.. والحكم كان جاهزا قبل بدء الجلسات
عندما اعتُقل الحنصالي في 23 يوليوز 1951، وهو التاريخ الذي حدده باحثون مغاربة اعتمادا على أوراق أرشيف الشرطة الفرنسية، أي بعد عامين على أنشطته التي اعتبرتها الإدارة الفرنسية «جرائم» وتخريبا يعاقب عليه القانون بأقصى العقوبات، كان خبر تفكيك خليته منتشرا في الدار البيضاء كالنار في الهشيم.
في انتظار جلسات المحاكمة، وُجه الحنصالي إلى السجن المركزي. ويحكي بعض قدماء المقاومة أنهم صادفوه هناك، خلال فترة اعتقاله، وبدء محاكمته وصدور حكم الإعدام في حقه، خلال فبراير سنة 1953، ثم قبل تنفيذ الحكم في نونبر من السنة نفسها، بشكل صدم الجميع. إذ لم يكن متوقعا أبدا تنفيذ الحكم.
من بين الذين صادفوا الحنصالي في السجن، أحد رموز الحركة الوطنية وهو عبد الرحيم بوعبيد. وقد روى بنفسه بعد الاستقلال لعدد من الشبان، الذين كانوا يحضرون عنده ليحكي لهم عن سنوات التوتر بين الحركة الوطنية في سلا والإقامة العامة الفرنسية، كيف أنه سُجن مرة على خلفية مشاركته في المظاهرات التي شهدتها شوارع المدينة، ليتم توجيهه إلى السجن المركزي في انتظار التحقيق معه.
وعندما كان عبد الرحيم بوعبيد في الزنزانة، اكتشف أنه يشاركها مع المقاوم أحمد الحنصالي، الذي كان اسمه لوحده كافيا لبعث الفخر والحماس في صفوف قادة الحركة الوطنية، الذين كانوا يعرفون جيدا بطولاته وعملياته، وحتى أطوار محاكمته.
حكى عبد الرحيم بوعبيد عن شخصية الحنصالي كما عرفه خلال المدة القصيرة التي جمعتهما معا في السجن المركزي، لكن شخصية هذا المقاوم الذي أطلق شرارة المقاومة في الأطلس المتوسط، نهاية أربعينيات القرن الماضي، وهو لا يزال شابا بسيطا من أسرة فقيرة، يتيم الأبوين، يعيش على الرعي وممارسة الأنشطة الفلاحية البسيطة جدا، ما زالت محل غموض كبير، سيما أن بعض الروايات تحدثت عن أجوبته النارية عن أسئلة المحققين، ومواقفه البطولية، أثناء محاكمته، التي حاولت الإقامة العامة الفرنسية أن تجعل منها بداية لنهاية نماذج شباب متأثر بالحنصالي.
بدا واضحا أن الحكم كان جاهزا قبل بداية محاكمة الحنصالي، فالإدارة كانت تريد أن تطوي الصفحة، وفي الوقت ذاته أن تمتص غضب العائلات الفرنسية التي فقدت أفرادا منها على خلفية عمليات الحنصالي الأخيرة.
وهكذا، كانت الجلسات تمتد لساعات لكي تجمع المحكمة ملابسات كل العمليات التي نفذها الشهيد الحنصالي ومن معه، وأيضا لكي تجعل من المحاكمة مادة إعلامية لبعث الرسائل إلى المقاومة المغربية، التي كانت وقتها قد بدأت في التشكل للتو. علما أن المحاكمة سبقتها مدة من التحقيق والاستنطاق.
كان الهدف منها أيضا إحباط عزيمة أعضاء الحركة الوطنية الذين أعربوا في مقالات منشورة في الدوريات الوطنية، عن مساندتهم للحنصالي واعتباره بطلا من حق المغاربة جميعا أن يفتخروا به.
صدر حكم الإعدام في فبراير 1953، ولم يكن متوقعا أن يتم تنفيذه، خصوصا أن الحنصالي اقتيد إلى زنزانة انفرادية، وكان متوقعا أيضا أن يبقى حبيس الزنزانة إلى أن تهدأ الأوضاع السياسية في المغرب. لكن ما وقع كان عكس كل التوقعات، نُفي السلطان محمد بن يوسف في غشت، وأعدم الحنصالي في آخر أسبوع من شهر نونبر، لكي يُدق المسمار الأخير في نعش «الهدنة» التي كانت متوقعة بين المغاربة والإقامة العامة الفرنسية.
الإعدام رميا بالرصاص.. الجزء المنسي من ذاكرة المقاومة
أبطال مغاربة مروا من سجلات الأمن الفرنسي ومحاكمه، وأقاموا في السجن المركزي سيئ السمعة. لكن قلة منهم فقط كتبوا بأنفسهم الفظاعات والمآسي التي شاهدوها بأعينهم. وأحد هؤلاء الذين كان لديهم من الثقافة ما يؤهلهم لكتابة مذكراتهم بأنفسهم، عبد السلام بناني. وهو الذي كان أحد أشهر الوجوه العصرية في الحركة الوطنية المغربية، ويجمع بين الثقافة العصرية والروح الوطنية، ليتم اعتقاله ومحاكمته ويزج به في السجن المركزي. وهو أحد الوطنيين الذين أثنوا على ثورة الحنصالي، ووصفوا بطولته بالملحمية. قبل وفاته، ترك عبد السلام بناني مخطوطا بخط يده، تحدث فيه عن تجربة السجن المركزي، وهو المكان سيئ السمعة الذي أرسل عشرات الوطنيين، إن لم نقل المئات إلى ساحة الإعدام، بعد محاكمات جماعية وأحيانا أخرى بدون محاكمات. ورغم أنه هنا يتحدث عن فترة ما بعد إعدام الحنصالي وسميحة، إلا أنه يسلط الضوء على تجربة السجن المركزي، وأحكام الإعدام لجيل كامل من مغاربة المقاومة. يقول: «صدرت الأحكام بالإعدام في حق عبد اللطيف بن قدور واثنين آخرين، فيما كان السجن المؤبد من نصيب الهاشمي فاتح. في حين تم إطلاق سراح اثنين، هما عبد السلام بن محمد والعربي بن الحسن. التهمة هي قتل ثلاثة أوروبيين وهم: ريبيس- راماجوا- سبورا. وفي إحدى الليالي جاء الحراس ليأخذوا عبد اللطيف بن قدور والحسن بن يدار لينفذ فيهما الإعدام، فصار الأخ عبد اللطيف يصيح قائلا: إخواني إني سأموت شهيدا، أطلب منكم أن تبلغوا إخواننا في الخارج أنني سأموت..
وفي نونبر حكمت المحكمة العسكرية على آخرين بـ20 سنة سجنا. وعلى محمد بن قاسم بـ5 سنوات. وكانت التهمة هي قتل اثنين من المخازنية في كاريير سنطرال.
في ماي 1954 وقعت محاكمة 22 متهما من أجدير، وألقي عليهم القبض قبل ذلك بسنة. وكانت المحاكمة كلها ضد أعضاء في حزب الاستقلال، لمحاولة إلصاق تهمة أحداث 1952 للحزب. وحكم على بعضهم بالسجن، فيما طلب تسريح الآخرين، نظرا إلى حداثة سنهم وقلة الحجج.
في ماي 1954 بدأت محاكمة 55 فردا من جماعة اليد السوداء، من بينهم محمد الراشدي وأحمد اليوبي ومولاي الطاهر العلوي، ثم عبد السلام بناني».