القصة الكاملة لقياديين في البوليساريو كانوا نزلاء «ملجأ دار التوزاني» فأصبحوا خصوما للوطن
وجه الملك محمد السادس، في ذكرى عيد المسيرة الخضراء، رسالة تحذيرية شديدة اللهجة إلى «البوليساريو»، قال فيها إن المغرب سيتصدى «بكل قوة وحزم للتجاوزات التي تحاول المساس بسلامة واستقرار أقاليمه الجنوبية»، وذلك في رد على عرقلة محسوبين على الجبهة السير في المعبر الحدودي الكركرات، الرابط بين المغرب وموريتانيا، واستفزاز الجيش المغربي خلال الأسابيع الماضية. في الخطاب نفسه دعا ملك البلاد الأمم المتحدة، ومن خلالها قوات المينورسو، إلى تحمل مسؤولياتها كاملة لحماية وقف إطلاق النار بالمنطقة.
شاءت الصدف أن يوجه الملك الراحل الحسن الثاني خطابا من مدينة إفران في الذكرى 13 للمسيرة الخضراء، لم يفوت فيه الفرصة للحديث عما تشهده مخيمات تندوف من قلاقل في تلك الفترة، وقال الملك: «في هذه السنة، ومن هذا المنبر أقول لجميع من لديهم النيات الحسنة ولجميع الذين تسري في دمهم ولو نقطة تربطهم بالمغرب، إن الوطن غفور رحيم.. أعلم أن هناك أسرا أكبادها منقسمة بين شطرين، قلوبها تبكي وتدمي، لأن منها من هو هنا ومنها من هو هناك، فأقول لمن ضلوا الطريق وابتعدوا عن السبيل، عليهم أن يتقوا الله في الوطن والرحم، وأن يعلموا أن الوطن غفور رحيم.. والله تعالى أرجو أن يهدي الضالين».
انتشرت دعوة «الوطن غفور رحيم»، فأفزعت القيادة في تندوف والجزائر، التي كانت تعيش وضعية سياسية مضطربة. عاد مئات الصحراويين إلى المغرب، ونشطت الداخلية والخارجية في استقطاب المستجيبين للنداء. الآن وبعد مرور 32 سنة على الدعوة، اضطر المغرب إلى ترتيب أوراق القضية من جديد، واضطر إلى التدخل بصرامة لوقف الانفلات والاستهتار بضوابط وقف إطلاق النار.
في هذا الملف تسلط «الأخبار» الضوء على قياديين قادتهم نوبة حماس إلى ركوب صهوة الانفصال، منهم من اختار العودة إلى الوطن، ومنهم من ينتظر.
قصة احتضان ملجأ دار التوزاني بعين الشق لنواة البوليساريو
يجهل كثير من البيضاويين لغز ضيعة دار التوزاني، فهي في نظرهم مجرد بقعة أرضية تحولت إلى تجمع سكني في طريق مديونة، وتفصل حي عين الشق عن سباتة وابن امسيك، على الطريق الرئيسية رقم 7 الرابطة بين الدار البيضاء ومراكش.
حين تتأمل الخريطة الطبوغرافية للمنطقة في عهد الحماية الاستعمارية، ستجد في دار التوزاني حاضرة للمنطقة الخلاء، مجرد قطعة أرضية تابعة للأملاك المخزنية تمتد لعشرات الهكتارات وتصل إلى مشارف أرض بوطراحة، تم بيع الضيعة إلى التوزاني بظهير مؤرخ في 19 يناير 1939. وانتزعت الملكية منه بعد استقلال المغرب، بقرار وزاري يستند إلى «المصلحة العمومية التي تقتضي بناء خزانين بطريق مديونة، لتزويد المدينة بالمياه»، قبل أن يزحف العمران وتصبح مجموعة سكنية تغطي المنطقة بالإسمنت المسلح.
ارتبطت دار التوزاني وجدانيا ومجاليا بشخصية محمد التوزاني، الطنجي الأصول والنشأة البيضاوي المقام. ولد التوزاني في مدينة طنجة، أثناء خضوعها للحماية الدولية، ودرس في ثانوية «رينيو»، واشتغل ترجمانا في عهد الجنرال داماد، قبل أن ينتقل إلى الدار البيضاء، حيث أسندت إليه مهمة عضو في لجنة تنظيم الموانئ، حتى نال لقب «ملك المرسى». مارس التوزاني «هواية» امتلاك الأراضي، في مختلف بقاع الدار البيضاء، وكانت دار التوزاني فسيحة الأطراف تقدر مساحتها بعشرات الهكتارات، كانت قصرا من قصور الملوك.
ورد اسم التوزاني في لائحة المطلوبين للتصفية الجسدية من طرف خلية المقاومة، وقال ألبير عياش في كتابه «الحركة النقابية بالمغرب» إن الاستغناء عن خدمات «ديكتاتور» المرسى قد وقع سنة 1954، حينها اختفى عن الأنظار، وقيل إنه سافر إلى فرنسا قبل عودة السلطان رفقة متورطين في موالاة الإقامة العامة. كما ورد اسمه ضمن «لائحة التجريد من حقوق المواطنة لمدة 15 سنة»، حسب الجريدة الرسمية الصادرة في 22 غشت 1958، والحكم بمصادرة أملاكه.
زحف حزب الاستقلال على دار التوزاني، في محاولة لضمها إلى أملاكه، لكن الحكومة حولتها إلى ملجأ لإيواء مئات الشباب القادمين من المناطق الصحراوية، التي كان المغرب يطالب بها إسبانيا. اعتبرها الوافدون من الجنوب داخلية، وتارة ملحقة لخيرية الدار البيضاء، بعدما خصص جناح منها لإيواء مئات الشباب الذين أطلق عليهم اسم «أولاد شنقيط»، رغم أنف ورثة التوزاني، الذين لجؤوا إلى الديوان الملكي قصد استرجاع هذه المعلمة، التي احتضنت النواة الصلبة لقيادة جبهة البوليساريو. كان يتردد على الدار عدد من القادة الاستقلاليين، وكان عبد السلام بناني مقيما فيها.
كان جيش التحرير يخوض في الصحراء حربا شرسة ضد الاستعمار الإسباني، أفرزت شهداء وأبناءهم، ففكر الفقيه البصري مع قيادة حزب الاستقلال في ترتيبات لاستقبال 133 طفلا من أبناء مجاهدي القبائل، الذين دافعوا عن الصحراء بعد حملة إكوفيون الإسبانية. لم يكن كل الأطفال من أصول صحراوية، فقد ضمت اللائحة أطفالا من أصول أخرى، كما شملت أشقاء من العائلة نفسها. تم إعداد «عرصة» دار التوزاني لإيوائهم والعناية بهم في الدار البيضاء، كان بينهم فتى طويل القامة اسمه مصطفى الوالي.
حين توقفت حافلتان أمام بوابة دار التوزاني، في خريف سنة 1957، لم يكن الأطفال الصحراويون يعرفون أين يقودهم القدر، فقد اعتقد أغلبهم أن الدار الفسيحة هي مدرسة تضم داخلية، لكن مع مرور الأيام سيعرفون أن الفضاء الواسع يعد ملجأ. بعد قضاء ثلاثة أيام كان رجال السلطة يسارعون الزمن لتسجيلهم في مدرسة «سيدي محمد بن يوسف»، دون أن يكون لكثير منهم الوثائق التي تسمح بالتسجيل، ودون اعتبار لانتهاء آجال الالتحاق بالمدرسة، فقد كان الموقف استثنائيا.
يجمع أبناء «خيرية عين الشق» الأولون على أن أول وفد من ممثلي الصحراء، الذين رافقوا البشير الوالي لمقابلة السلطان محمد الخامس، كان يتكون في أغلبيته من قدماء نزلاء هذه الدار، أي المجموعة التي تعرف بـ«الشناقطة». كان البرنامج صارما، حرص المدير المعطي على تنفيذه وكأنه نسخة منقحة من صاحب البيت الفسيح، كان يخصص يوم الجمعة للاستحمام الجماعي، ويتم في مساء اليوم ذاته نقل الجميع إلى إحدى دور السينما بشارع الفداء لمشاهدة أحد الأفلام المخصصة للأطفال، ولأن صاحب السينما كان من رجال المقاومة، فقد مكن الوافدين الصحراويين من مجانية الفرجة. وفي أيام الأحد يمكن لأبناء شنقيط مغادرة الدار بكامل الحرية دون الحاجة إلى حضور الوجبات الغذائية، مما يمكن العديد منهم من التعرف على المدينة واكتشاف أحيائها، ومنهم من كان يفضل التردد على الأسواق والوقوف في الصفوف الأولى لحلاقي القريعة. وفي المساء يعودون جماعيا إلى دار التوزاني.
ويؤكد أكثر من نزيل سابق على أن ملاعب خيرية عين الشق كانت تعج بأطفال شنقيط الذين مارسوا مختلف الرياضات، وكانوا أبطالا في الركض والألعاب التي تتطلب جهدا بدنيا، فيما كانت الفئات الأخرى تفضل ممارسة كرة السلة وكرة القدم. وحده الوالي مصطفى، زعيم البوليساريو الأول، والذي عاش بين دار التوزاني وخيرية عين الشق بالدار البيضاء، كان حريصا على ممارسة رياضة كرة السلة اعتمادا على قامته الفارهة.
حين اجتاز أغلب التلاميذ التعليم الابتدائي، انتقلوا إلى ثانوية بعيدة في شارع 2 مارس «ثانوية محمد الخامس»، ومنهم من تم نقله إلى الرباط لاستكمال تعليمه الثانوي في ثانوية «الليمون»، قبل أن يغلق هذا الملف سنة 1964.
سفير البوليساريو بالجزائر.. من السمارة إلى الدار البيضاء
كان عبد القادر طالب عمر، الذي سيشغل في ما بعد منصب «وزير أول» في جبهة البوليساريو، من بين العناصر النشيطة في دار التوزاني، وشكل إلى جانب الأطفال الوافدين من طانطان النواة الصلبة لهذا التكتل الصحراوي، خاصة أنه حل بالدار وعمره ست سنوات، وقد اختار اجتياز مباراة ولوج مدرسة المعلمين قبل حصوله على البكالوريا ليظفر بمنصب معلم، قبل أن يغادر الفصل الدراسي ويلتحق بالبوليساريو فيصبح من وجهاء تندوف.
حرص ابن مدينة السمارة المولود سنة 1951 على الهجرة إلى إسبانيا، وحين لاحت الفرصة ركب البحر صوب مدريد، بعد حصوله على منحة دراسة الحقوق ليتخرج محاميا سنة 1971 ويلتحق بالبوليساريو منذ تأسيسها، حيث شغل العديد من المناصب القيادية كـ«رئيس للوزراء»، منذ 29 أكتوبر 2003 حتى 4 فبراير 2018، خلفا لبوشراية حمودي بيون الذي عين ممثلا للبوليساريو في إسبانيا. تقلد مناصب أخرى وحمل «حقائب» الداخلية والتجهيز والإعلام، ثم أصبح عبد القادر «سفيرا» للبوليساريو بالجزائر.
حين اندلعت قضية معبر الكركرات، ظهر عبد القادر طالب عمر في أكثر من منبر إعلامي جزائري، داعيا إلى العمل المسلح، ناسيا أن أهله وذويه يتحملون مسؤوليات رسمية في جهاز الدولة، خاصة في السمارة مسقط رأسه.
وأشار «السفير الصحراوي» لدى نزوله ضيفا على برنامج «ضيف الصباح»، الذي تبثه القناة الإذاعية الجزائرية الأولى، إلى أن الوضع الحالي يفرض تحريك البركة الراكدة، ولم يفوت الفرصة لزرع الفتنة بين أهالي الصحراء.
بيد الله.. الغضب الساطع ورد الفعل الهادئ
خلافا لهؤلاء الشباب الذين يفيضون حماسا، كانت طباع طفل يدعى محمد الشيخ بيد الله هادئة، لا ينتفض بانتفاضة زملائه، ولا يخاطر بنفسه من أجل مطلب قد يكلفه غاليا. لقد كان اسم بيد الله على رأس قائمة المرحلين إلى الدار البيضاء، قادما إليها من بويزكارن رغم أنه من مواليد مدينة السمارة. حصل الشاب الصحراوي الهادئ على شهادة البكالوريا في الدار البيضاء، لينتقل إلى كلية الطب بالعاصمة الرباط في نهاية الستينيات، ثم يعود إلى العاصمة الاقتصادية طبيبا بمستشفى ابن رشد، وينتهي به المطاف وزيرا للصحة وأمينا عاما لحزب الأصالة والمعاصرة.
لكن هدوءه لم يمنعه من الانخراط في الحركة الطلابية بالجامعة، والانضمام إلى الحراك السياسي الذي قاده المنحدرون من الصحراء، الذين سيؤسسون جبهة البوليساريو الانفصالية وكان الهدف الأول «مقاومة الاستعمار الإسباني في الصحراء، واسترجاع إقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب من قبضته»، لكن هذا المشروع السياسي سيأخذ بعدا انفصاليا حين دفع البعض وعلى رأسهم الوالي مصطفى السيد، بطرح الانفصال، إلى الواجهة، مما جعل بيد الله يعارض هذا التوجه وهو في كلية الطب ليعلن انسحابه لاحقا، متحملا المضايقات الكثيرة التي تعرض لها، إلا أن شقيقه بيد الله إبراهيم الشهير بـ«كريكاو» فضل البقاء ضمن ما بات يعرف بخلية طانطان، والتحق بالبوليساريو.
المحفوظ علي بيبا.. من دار التوزاني إلى مفاوضات مانهاست
ينحدر المحفوظ علي بيبا من مدينة طانطان وينتمي إلى قبيلة إزركيين. عاش طفولته في أحياء مدينة العبور وواديها، قبل أن تنقله حافلة رفقة أبناء المقاومين إلى الدار البيضاء، ليلتحق بدار التوزاني إلى جانب بعضهم ممن عايشوا طفولته في طانطان، فيما تعرف على البعض في طريق الرحلة.
يعد المحفوظ من المؤسسين للبوليساريو، وكان رفيق درب أول قيادة خاصة، بعد أن «عين» رئيسا للمجلس الوطني الصحراوي، ومن المفارقات العجيبة أن يصبح ابن طانطان مفاوضا رئيسيا في جلسات الحوار مع المغرب، خاصة في مانهاست حيث التقى في طاولة التفاوض مع أصدقاء طفولته، وكان ينعت بالرجل الثاني في الجبهة.
في اليوم الثاني من شهر يوليوز 2010 أعلن عن وفاة مفاجئة للمحفوظ، وقيل إن الوفاة كانت نتيجة سكتة قلبية بتندوف، دون تقديم تفاصيل أكثر، مما أطلق العنان لكثير من التكهنات حول طبيعة وملابسات موته، ولعل أهم وأخطر المعطيات كون الرجل قد شوهد حيا يرزق وبصحة جيدة في اليوم نفسه. لم تقتنع أرملة الفقيد بفرضية النوبة القلبية، وحاولت بناته الثلاث البحث عن تفاصيل حقيقة موته دون جدوى.
وحسب بعض الشهادات فإن المحفوظ عرف بنوبات غضبه التي كانت بلا حدود، إلى أن لوحظ اعتداله بشكل لافت لم يسبق له مثيل أثناء المفاوضات مع المغرب، حيث أبدى سلوكا تواصليا فريدا مع الجانب المغربي، وهي التصرفات التي حتما جرت عليه خوف وهلع خصومه الكبار من قادة البوليساريو وحاميتها الجزائر، لوقف أي نوع من العقلانية والاعتدال مع المغرب على الأقل أثناء المفاوضات.
ومن المفارقات العجيبة أن يقيم المغاربة حفلا تأبينيا للراحل بيبا، في العيون وطانطان، بل إن الملك محمد السادس كلف وزير الدولة آنذاك محمد اليازغي بالإشراف على الأربعينية، في منزل أسرته بمدينة العيون. حيث قال: «إنه من المؤلم ألا يكون قبر الفقيد بيننا، وأن تكون الغربة رفيقته في حياته ومماته».
نظمت الذكرى الأربعينية في منزل ابن عم المرحوم الفقيد، رشيد الدويهي، الوالي الملحق بوزارة الداخلية سابقا، بحضور متميز للسلطات المدنية والعسكرية، يتقدمها والي الجهة وشيوخ القبائل الصحراوية وأصدقاء وأحباء المرحوم وشقيقه عبد الله بيبا، نيابة عن العائلة. وفي مدينة طانطان خلدت عائلة المحفوظ الأربعينية، بمنزل ابن عم الفقيد علي بيبا ولد عابدين.
أحمد ولد سويلم.. عاد إلى المغرب وقدم البيعة للملك
تأخرت عودة ولد سويلم، مستشار محمد عبد العزيز، وأحد المؤسسين لجبهة البوليساريو، إلى سنة 2009، وقال في تصريحات متناثرة مع وكالة المغرب العربي للأنباء: «إن العودة أملتها مبادرة الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية التي تقدم بها المغرب، والتي جاءت لتلبي حاجة نفسية وحقيقية للصحراويين المحتجزين في تندوف، الذين يعيشون على إيقاع اليأس وعدم الاستقرار».
وأوضح ولد سويلم في ندوة صحفية أن الصحراويين في مخيمات تندوف تحدوهم الرغبة في الالتحاق بركب مقترح الحكم الذاتي، الذي يرون فيه حلا من شأنه أن يضع حدا للأوضاع المزرية واللاإنسانية التي يرزحون تحتها داخل المخيمات.
وتابع أن قادة البوليساريو يعملون بإيعاز من الجزائر، على عرقلة الجهود الرامية إلى تسوية هذا النزاع المفتعل، بالنظر إلى كونهم يستفيدون من بقاء الوضع على حاله.
وأكد ولد سويلم أنه قدم ولاءه وجدد بيعته وبيعة قبيلة ولاد الدليم للعرش العلوي المجيد، معربا للملك عن قناعته بأن مقترح منح الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية الشريفة حكما ذاتيا موسعا، هو الحل الوحيد والعادل للمشكل المصطنع وإنهاء معاناة المحتجزين في مخيمات تندوف
الشيوعي المتمرد.. تشي غيفارا الصحراء
كان الوالي مصطفى السيد من أبرز نزلاء ملجأ دار التوزاني بالدار البيضاء وأكثرهم شجاعة، وهو الذي سيصبح زعيما للبوليساريو بعد أن شرب أطروحة الانفصال حتى الثمالة، لينتهي به المطاف قتيلا بعيار ناري من الخلف في هجومه على العاصمة الموريتانية نواكشوط سنة 1976. وتجمع الروايات على اغتياله في موريتانيا، بعدما اعترف بأخطائه في خطابه المشهور يوم 20 ماي من السنة نفسها في الرابوني، طالبا السماح من شعبه وقال: «قد ظلمنا شعبنا».
لقد تعلم مصطفى السيد أولى دروس الاحتجاج في ملجأ دار التوزاني، وأشرف على تنظيم وقفات احتجاجية أمام عمالة الدار البيضاء، قبل أن تختمر تجربته الثورية بعد التشبع بالفكر الشيوعي، ويجد نفسه في طليعة الوقفة التي نظمها على رأس مجموعة من الطلبة الصحراويين، الذين رافقوه في ملجأ التوزاني، منددا بزيارة وزير خارجية فرانكو، لوي برافو، إلى المغرب. كان الفتى النحيف طويل القامة عاشقا للمتمرد الكوبي تشي غيفارا، حريصا على قراءة سيرته.
اعتقل الوالي إثر هذه الوقفة وعذب داخل أقبية «الكومبليكس» بالعاصمة الرباط، قبل إطلاق سراحه وتواريه عن الأنظار وانقطاع أخباره، رغم أنه ظل يتردد على الدار البيضاء لزيارة بعض رفاق مساره حين كان مقيما في دار التوزاني المتاخمة لحي عين الشق، حيث كان يقضي جل عطله الدراسية مع الطلبة الصحراويين. وكان عمر ولد الشيخ حامد من أقرب أصدقائه، قبل أن يصبح رجل ثقته.
بعد سقوط الوالي، سقطت البوليساريو لقمة سائغة بين فكي النظام الجزائري الذي «أغدق عليها من ريع نفطه بالمال والسلاح لزعزعة استقرار المغرب واستنزافه في نزاع مفتعل، بدعوى حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره»، يقول محمد يحضيه في «ذاكرة التمرد».
ظهر واضحا من خلال البيان التأسيسي لجبهة البوليساريو الصادر في الصادر 10 ماي 1973، وجود أسماء عديدة عاشت تجربة دار التوزاني، ومن خلال لائحة الصحراويين التسعة المؤسسين لهذا الكيان، يمكن التوقف عند دور هذه الضيعة في بناء شخصية المتمردين الشباب.
ماء العينين مربيه ربه.. مهووس بالصحافة يصبح رئيسا لإذاعة البوليساريو
قضى جزءا من طفولته في دار التوزاني وكان شغوفا بالإعلام، ليصبح ماء العينين مربيه ربه اسما إعلاميا بارزا، شغل مناصب عديدة في جبهة البوليساريو، قبل أن يقرر العودة إلى وطن لم يكن يعرف عنه أي شيء، ولكنه كان يحمل انتماءه في الدم الذي يجري في عروقه. وقرر أن يحقق الحلم الذي راوده، منذ أن تم اختطافه أياما قليلة قبل المسيرة الخضراء، ليساق قسرا إلى مخيمات تندوف تحت الحراسة المشددة لعناصر الجيش والمخابرات العسكرية الجزائرية، رغم الأخطار المحيطة بقراره، وترك منصبه كمدير للإعلام، وعاد إلى الوطن بمساعدة صديق له فرنسي الجنسية، عبر النقطة الحدودية «زوج بغال» بين وجدة والجزائر.
ولد ماء العينين في ضواحي الداخلة سنة 1950، ونظرا لغياب بنية تحتية تعليمية في المنطقة، كان من بين المرحلين إلى شمال المغرب، حيث سيحط مربيه ربو الرحال بالدار البيضاء، وتحديدا بدار التوزاني ويدرس في ثانوية «2 مارس»، قبل أن ينتقل إلى الرباط ليلتحق بثانوية «الليمون». خلال مقامه في الدار البيضاء كان رفيق درب ابن طانطان، عبد القادر طالب عمر.
أجمعت الروايات على أن إجلاء الصحراويين من دار التوزاني جاء نتيجة انتفاضة جماعية مبكرة، يقول ماء العينين مربيه ربو في أكثر من لقاء إعلامي إن «سبب المغادرة تافه، لكنه عميق الدلالات». ويضيف وهو يقدم تفاصيل أكثر:
«عينت السلطات على رأس دار التوزاني مديرا يسمى المعطي، استغل مسؤوليته ليستحوذ على جزء من الدار وممتلكاتها. بدأ باستعمال السيارة الوحيدة، وهي من نوع «فولسفاغن»، المخصصة لنقل الأطفال الصغار إلى المدارس الموجودة بالقرب من كاريان سيدي عثمان، ثم ما لبث أن حاز هذه السيارة بشكل نهائي لأغراضه الخاصة. بعد ذاك استولى على الجناح الأجمل في دار التوزاني، جاعلا منه مسكنه الخاص، وضم إليه المسبح. أصبحت نصف الدار ممنوعة علينا، ما سيؤدي إلى حالة تذمر في أوساط التلاميذ، تحولت إلى اعتداء على المدير الذي بعد أن أغمي عليه رميناه في طريق مديونة. لم نندم على فعلتنا، لأن الرجل استغل مكانا مخصصا للتلاميذ لمصالحه الخاصة وجعله مكانا لسهرات يستدعي إليها أصدقاءه».
قبل الهجوم على المشرف العام، نظم الصحراويون المقيمون في دار التوزاني، وقفة احتجاجية هي الأولى في تاريخ عمالة الدار البيضاء، لكن السلطات انتبهت إلى خطر شبابي قادم من قاطني الدار الفسيحة التي كانت تعيش في صمت، يضيف مربيه ربو في بوح للبيان: «أذكر أن شابين أنيقين استوقفاني أمام بوابة المدرسة، وطلبا مني الالتحاق بالعمالة لأمر يهمني. ما كدت أوجه ناظري إليهما، حتى أثار انتباهي توقف مباغت لسيارة شرطة تم إقحامي فيها، ومنعي من طرح أي سؤال، وصلت السيارة إلى الدائرة المركزية الأمنية بالدار البيضاء، التي سأجد فيها كل زملائي. قضينا ليلة اعتقال مفترشين الأرض. لم يغمض لنا جفن، خاصة وأن رجال الأمن كانوا على رأس كل ساعة تقريبا يأخذون منا واحدا إلى وجهة معلومة».
تقرر توزيع أبناء الشهداء على مدن مختلفة، بعد أن اقتنعت السلطات أن تجميعهم في مكان واحد من شأنه أن يساهم في بناء مشروع ثوار، جاء دوري طبعا. «حملوني بمعية حوالي 15 تلميذا على متن سيارة الشرطة نحو محطة القطار. كانت الوجهة، دون أخذ رأينا طبعا، هي خيرية دار الطالب الموجودة بمدينة الرباط. لم يضيعوا الوقت. فقد شرعوا في توزيعنا على الثانويات، متعمدين تفريق المجموعات وتشتيتها»، يقول ماء العينين. «لم يطل مقام التلاميذ في دار الطالب ديور الجامع سوى أيام معدودة، قبل أن يقرروا الهروب كل نحو وجهته، بينما بقي عدد قليل سرعان ما اختفى عن الأنظار لتنتهي حكاية أبناء شنقيط على هذا النحو».
في 18 أبريل الماضي انتقل الإعلامي الصحراوي مربيه ربه إلى الرفيق الأعلى، بإحدى مصحات العاصمة، بعد أن ناضل إلى آخر أيام حياته في صفوف حزب التقدم والاشتراكية.