القصة الكاملة لبوتفليقة.. من دار الطين بوجدة إلى قصر الرئاسة في الجزائر
يونس جنوحي
مارس 1937. سيولد عبد العزيز بوتفليقة بمدينة وجدة. بمنزل تتوسطه شجرة صغيرة. والد متزوج للمرة الثانية بدا واضحا أنه كان يحتفظ برصيد من الغموض والتشنجات. وأم مغلوبة على أمرها كسائر نساء تلك الفترة.
الحرب العالمية الثانية كانت تلقي بظلالها الثقيلة، ومدينة وجدة، بحكم موقعها الاستراتيجي والحدودي، كانت لا تهدأ من هدير المحركات.
طفولة غرائبية، قيل إن بعض العارفين تنبؤوا خلالها لعبد العزيز بوتفليقة بالنبوغ. كانت علاقة أسرته بالجزائر لا تخفى على سكان الحي قرب حمام «جردة» الذي كان منزل العائلة يقع على بعد خطوات منه وتملكه جدة بوتفليقة.
في الخمسينيات سيرحل إلى الجزائر بعد أن أحرز تقدما دراسيا كبيرا وأحاط بمشكل الاستعمار الفرنسي للجزائر.
سنتناول في هذه الحلقات حقائق مهمة أفردها الكاتب الصحافي الجزائري فريد عليلات، الذي قال إن بوتفليقة طُرد من قيادة الثورة الجزائرية وكان يحتقره بن بلة، وأنه كان مجرد صنيعة للهواري بومدين. تفاصيل كثيرة بخصوص تجميد الدور السياسي لبوتفليقة خلال الستينيات، أي بعد استقلال الجزائر، وقضائه لفترة الثمانينيات شبه لاجئ في الإمارات بعد أن خبا نجمه وتألقه خلال سبعينيات القرن الماضي عندما كان وزيرا للخارجية ونشيطا في الأمم المتحدة ودبلوماسيا يُقام له ويُقعد.
«.. Bouteflika L,histoire secrete» هو العنوان الذي تم اختياره للكتاب. لكننا في هذه الحلقات سنجمع ما تفرق من حياة عبد العزيز بوتفليقة، على لسان بعض من عرفوه عن قرب، وسننقب في أرشيف الصحافة المغربية والجزائرية وتقارير الهيئات الأجنبية التي تناولت حياة عبد العزيز بوتفليقة وأدواره والمهام التي اضطلع بها.
عبد العزيز بوتفليقة.. القصة الأخرى للرجل الذي أحبه الجزائريون فترة، ثم كرهوه وهو على كرسي بعجلات، فضّل أن يجثم به فوق أنفاسهم محطما رقما قياسيا في فترات الرئاسة. ابن مدينة وجدة التي غادرها تاركا خلفه منزلا لم تبق منه اليوم إلا الأطلال. كلاهما تحطم، الرجل والبيت.. وهذه القصة الكاملة..
أسرار طفولة بوتفليقة الأولى.. من المسيد ولعب الكرة إلى متابعة ترحيل الجنود المغاربة نحو الفيتنام
منزل تحول الآن إلى كومة أتربة بعضها فوق بعض، وبقايا جدران شهدت طفولة الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة في مدينة وجدة.
يمر الناس، منذ قرابة عام ونصف حتى الآن، قرب الدار غير آبهين بها. وحدهم قدماء الحي في مدينة وجدة يتذكرون الطفل عبد العزيز، بسرواله القصير وعضلاته الضامرة، وعينيه الغائرتين، وهو يسابقهم نحو الملعب القريب، لتزجية الوقت في مطاردة كومة «الشراويط» التي كانوا يسمونها مجازا كرة للقدم.
في بداية أربعينيات القرن الماضي، كان عبد العزيز بوتفليقة قد بدأ يعتاد على صلابة أرض مدينة وجدة وهو يرتطم بها في كل مرة ينتزع منه أحد أقرانه الكرة أو يمنعه من التسديد، حتى أن محمد العرفاوي، أحد قدماء أصدقاء بوتفليقة الذين تحدثت إليهم «الأخبار»، حكى لنا عن هذه الطفولة الموسومة بالكثير من الذكريات.
العرفاوي يتذكر
هذا أحد رفاق عبد العزيز بوتفليقة القدامى في قلب مدينة وجدة، حيث كان يقطن قرب حمام «جردة»، المعروف جدا في مدينة وجدة باعتباره في قلب المدينة القديمة، والذي قيل وقتها إنه، أي الحمّام، كان في ملكية جدة عبد العزيز بوتفليقة. يقول العرفاوي: «لا أزعم أنني كنت صديقا لبوتفليقة، لكننا كبرنا في نفس الحي. كنا أطفالا كثرا، لكن كنا نعرف عائلات بعضنا البعض جيدا. وكلنا ولدنا في نفس الفترة، أي ما بين سنوات 1937 و1940، بدليل أننا التحقنا لأول مرة بالكُتاب في نفس اليوم.
لا زلت أذكر ذلك اليوم جيدا، حيث اكتشفنا ونحن صغار أن بوتفليقة كان يعيش مع والده الذي تزوج بعد والدته، وكان حضور زوجة الأب في حياته كبيرا. كان والده من النوع الذي كنا نخافه ونحن أطفال في السابعة أو السادسة.
في سنة 1943 كنا نلعب الكرة ونحن في الخامسة من أعمارنا تقريبا، لكن عبد العزيز كانت بنيته لا تساعده لكي يتدافع معنا رغم أننا كنا أقرانا، حتى أن بعضنا كانوا إخوانا في الرضاعة رغم أنهم من عائلات مختلفة. المهم، كان بوتفليقة غير موفق مثلنا في هذه اللعبة، وقد كان والده يعاقبه بقسوة إن أصيب في المباريات اليومية التي كنا ننظمها على بعد أمتار من المسجد الذي لا يزال قائما إلى اليوم، والذي لم يكن يبعد عن دار بوتفليقة سوى بمائة متر تقريبا.
كنا نتردد على منازل بعضنا البعض للأكل والشرب، لكن لا أحد منا كان يقوى على دخول دار والد عبد العزيز بوتفليقة، لأنه كان حاد المزاج وكان الأطفال في سننا يخافون من مزاجه ونظراته الغاضبة. وكان هذا الأمر يتسبب لعبد العزيز بوتفليقة في أحيان كثيرة بالإحراج، حتى أنني أتذكر مرة أن أحد الأطفال طرده من منزله عندما دخل مع الأطفال بدعوى أنه لا يُدخلنا إلى منزلهم بدوره».
شيء من حتى..
عندما أصبح عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية الجزائرية، كانت تلك محطة متوقعة، لأن الرجل أصبح نجم مدينة وجدة وليس الحي القديم فقط منذ حصول الجزائر على الاستقلال بداية الستينيات وظهور بوتفليقة في مربع القيادة الجديدة لقيادة الثورة الجزائرية، بداية الستينيات، وتعزز الأمر أكثر عندما أصبح رسميا وزيرا للخارجية الجزائرية.
لنبدأ من البداية. وُلد عبد العزيز بوتفليقة سنة 1937 بمدينة وجدة، وهو ما يعني أن الرجل عاصر فترة عصيبة من التاريخ المحلي للمدينة. وبحكم أن أسرته كانت تقطن في قلب المدينة مع عموم الوجديين، فإن مستقبله كان مرسوما وقتها لكي يكون واحدا من الكثيرين الذين قضوا حياتهم في الشرق، بعيدا عن أي احتكاك مع المركز، حيث كانت الحركة الوطنية وقتها في المخاض الأول لولادة أول حزب سياسي في المغرب بزعامة علال الفاسي.
كانت النخبة الوجدية من الوطنيين الذين أثروا لاحقا في صناعة أحداث الحركة الوطنية، بعيدة تماما عن متناول أسرة عبد العزيز بوتفليقة. باختصار، لم يكن هناك أي شيء يُنبئ بأن ذلك الطفل الوديع سوف يصبح رئيسا للجمهورية الجزائرية بعد الاستقلال.
طفل فتح عينيه على الشرق
ككل الوجديين وقتها، فإن عبد العزيز بوتفليقة تربى على متابعة أخبار الشرق، والحديث عن ممارسات الاستعمار الفرنسي التي انتهكت حقوق الإنسان في الجزائر، بحيث إن جزائريين من مناطق متفرقة من البلاد كانوا يهربون في اتجاه وجدة للاستقرار بها أو في النواحي، خصوصا في محيط جرادة التي كانت مشهورة بإمكانياتها الواعدة للاستثمار في مجال المناجم، إذ إن الفرنسيين كانوا يسيطرون تماما على التحركات في تلك المناطق، وهو ما جعل أخبار القادمين من هناك تحظى بمتابعة كبيرة في مدينة وجدة التي كانت ناقلة للأخبار والأحداث والحياة أيضا، بين المغرب والجزائر.
عاصر عبد العزيز بوتفليقة الحرب العالمية الثانية. كان وقتها طفلا وهو يرمق رفقة أقرانه حافلات نقل الجنود المغاربة الذين عبرت بهم القوات الفرنسية سنة 1943 بالحافلات نحو الجزائر، لكي يتم شحنهم بحرا نحو الفيتنام للمشاركة في الحرب العالمية الثانية.
وجدة، منطقة العبور، شهدت هذه الأحداث ولا يزال الوجديون القدامى، أمثال السيد محمد العرفاوي، يتذكرون تلك الأحداث التي ولا شك بصمت حياة جيله، جيل عبد العزيز بوتفليقة. يقول: «كنا في الكُتاب نحفظ القرآن الكريم ونستظهر الحروف الهجائية، ونرتدي لباسا موحدا كان عبارة عن جلباب محلي يرتديه الجميع سواء كانوا فقراء أم أغنياء. وأذكر أنه في إحدى الصباحات ونحن نغادر الكُتاب صوب منازلنا لتناول وجبة الغداء، إذا بالأطفال يتهامسون ويجرون صوب الشارع الذي كان وقتها الشارع الرئيسي الوحيد، فإذا بنا نفاجأ بتوقف عدد كبير من الشاحنات التي نزل منها مجندون مغاربة كانوا يتحدثون الدّارجة، لذلك تعرفنا عليهم بسهولة، وقضوا نصف اليوم في وجدة للاستراحة. وأذكر أننا كنا نزعجهم لأننا كنا نتجمهر حولهم وهم يتناول طعامهم، فقام أحدهم بطردنا متوعدا بكلمات نابية».
هذه المحطة المهمة من حياة بوتفليقة، كانت هي الأبرز ربما في مرحلة طفولته. لاحقا سوف يتعرف عبد العزيز بوتفليقة على عدد من المحطات الأخرى، خصوصا في نهاية الأربعينيات عندما كان الثوار الجزائريون يتلقون الدعم من وجدة ونواحي الناظور، وكانوا يعتبرون تحرير البلدين من الاستعمار الفرنسي أسمى الغايات.
عبد العزيز بن منصورية
هناك لغط كبير بخصوص أصول عبد العزيز بوتفليقة الجزائرية. الجزائريون، خصوصا بعد الحراك الأخير الذي أدى ببوتفليقة إلى تقديم استقالته من رئاسة الجمهورية مكرها ليغادر بعد تداول أخبار عن «تحنيطه» كرئيس في الصورة فقط، تداولوا بحماس زائد أصول الرجل وطفولته في المغرب. في وقت يتبرأ فيه عدد من المغاربة من بوتفليقة ويعتبرونه جزائريا أقام في المغرب، يقوم المعارضون الجزائريون بالترويج لرواية تقول إن بوتفليقة ليس إلا مغربيا ابتليت به الجزائر. والحقيقة طبعا ضاعت بين الفريقين.
ما حقيقة والدي بوتفليقة إذن؟ وكيف تحول منزل العائلة إلى خربة لم يتم إصلاحها لتتحول إلى مقبرة للحيوانات النافقة ووكر مظلم تفوح منه الروائح العطنة بصورة تجعل تصديق كونه منزل الرئيس الجزائري، الذي لا يزال للإشارة في ملكية العائلة، أمرا غير قابل للتصديق.