القصة الطريفة لولوج المالح كلية الهندسة بعد أن كان يخطط لدراسة الموسيقى
كيف تحول فيكتور المالح، وهو ابن العشرين ربيعا، من متابعة «قلبه» والتخصص في الفن والموسيقى، إلى ولوج كلية الهندسة والتخرج منها مهندسا؟
تجب الإشارة أولا إلى أن فيكتور المالح ما كان ليصنع ثروته ونجاحه لولا اشتغاله في مجال شركات الهندسة، قبل أن يشق طريقه ويشمل نجاحه مجالات أخرى يسيطر فيها مشاهير السينما وبيع المنتجعات والإقامات الفخمة والسيارات الفارهة والماركة الألمانية «فولسفاغن».
نحن الآن في شتنبر 1938. قضى فيكتور المالح فترة الربيع في التأرجح بين السلامة والحالات الحرجة للمرض التنفسي الذي ألمّ به. وذهب إلى المغرب في زيارة وصفها بـ«فترة نقاهة» لكي يستعيد عافيته ويصل رحمه مع العائلة في الصويرة. ثم عاد في شتنبر إلى الولايات المتحدة.
قصة ولوج «الهندسة»
يقول فيكتور المالح إنه كان ساذجا ولم تكن له خبرة كبيرة في مجال التوجيه ولا التخصصات الجامعية. باستثناء خاله الذي كان طالبا في جامعة «كولومبيا» لفترة، فإن العائلة في نيويورك لم تكن متآلفة مع الدراسات العليا والتخصصات العلمية التي كان يلجها أبناء الوافدين الجدد إلى الولايات المتحدة. مباشرة بعد العودة من المغرب حيث زار فيكتور والدته ورأى إخوته الصغار الذين كانوا يتابعون دراستهم في مدارس اليهود الخاصة بالمدينة، كان عليه أن ينهمك في صناعة مستقبله الخاص. يقول متحدثا عن هذه المرحلة لـ«Old New Yorker Stories»: «كنت ساذجا في ذلك الوقت. لا أذكر أنني كنت أنظر إلى المناهج. قمت بإرسال طلب التسجيل إلى جامعتين. جامعة «براون» في الشمال و«فيرجينيا» في الجنوب. لسبب ما، لم ترد جامعة «براون» أن تمنحني اعتمادا عن السنتين اللتين قضيتهما في التخصص. جامعة «فيرجينيا» قبلت، وبالتالي تسجلت بها.
عندما ذهبت إلى فيرجينيا في شتنبر 1938، اكتشفت أن دروس الموسيقى الوحيدة التي تتوفر لديهم كانت هي حصص «تقدير وتذوق» الموسيقى. لم تكن هناك مواد للمتقدمين. وبالتالي نظرت في بقية التخصصات ووجدت كلية للهندسة، وقررت أن أدرس الهندسة. وهكذا أصبحت مهندسا. بقيت في الكلية إلى حدود سنة 1941. أي ثلاث سنوات.
في يونيو 1941 أنهيت كل شيء، باستثناء مشروع التخرج. لم أتخرج مع دفعتي لتلك السنة. وقمت بإنهاء بحثي في الصيف وقدمته في يوم 7 دجنبر 1941. وحصلت على شهادتي الجامعية سنة 1942، بعد أن أدمجوني في يناير من نفس السنة».
صعوبات تتخللها «مشاكل»
لم تكن الدراسة الجامعية يسيرة لفيكتور المالح. فقد درس مع أبناء الجيل الأقدم من المقيمين الأمريكيين، بينما كان هو قادما من محيط تعتبر فيه الدراسة الجامعية ترفا كبيرا. ورغم أن الجو العام في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الأربعينيات كان جو حرب، بحكم أجواء الحرب العالمية الثانية، إلا أن فيكتور المالح كان بعيدا جدا عن تلك الاهتمامات. كان عليه أن يلتقي في الجامعة بعض الأسماء ممن صار لهم باع كبير في عالم الصحافة والتلفزيون، بالإضافة إلى مشاهير أمريكيين ممن ارتبطت أعمال هندسية بأسمائهم، كانوا قد درسوا في جامعة فيرجينيا في نفس الفترة التي كان فيها فيكتور المالح، الشاب اليهودي الخجول، يتجول بين الأروقة.
يعترف فيكتور المالح بأنه كان مهادنا خلال الدراسة الجامعية، وبالكاد كانت أنشطته تتراوح بين حضور المحاضرات والدروس التطبيقية والبحث عن فرص للتدرب في مكاتب الهندسة التي انتشرت في نيويورك وواشنطن بكثرة بعد الأزمة المالية العالمية الخانقة لسنة 1929، والتي تلاها انتعاش اقتصادي كبير في أمريكا. لم تكن له أي أنشطة نقابية أو سياسية في الجامعة، بل ولم تكن له أي أنشطة أخرى تُنبئ بمستقبله الواعد في عالم الأعمال والشهرة.
كان فيكتور المالح يحن إلى لعب كرة اليد، فبعد أن أحرز في المرحلة الثانوية لقب البطولة الوطنية رفقة زملاء لعبوا لاحقا للمنتخب الأمريكي، انخرط في الفريق الجامعي لكرة اليد لكنه لم يحقق معه ألقابا مهمة، ولعب التنس أيضا.
كان الأمر أكبر من أنشطة ترويحية، فقد جرب فيكتور المالح تلك الرياضات علها تكون بابا نحو فرص ما، تعفيه من مواصلة دراسة الهندسة.
لماذا تأخر في التخرج مع دفعته؟ لم يجب فيكتور المالح للأسف عن هذا السؤال قيد حياته. لكن أمرا ما كان مختلفا بشأنه ولم يكن نسخة من زملائه، ومن النموذج الذي كان أساتذته يرغبون في صناعته.
ميلاد فيكتور «المختلف»
لم يكن فيكتور المالح متمردا، ولم يكن نموذجيا أيضا. كان «فيكتور» الذي لن يتكرر. هذه بعض شهادات زملائه في حقه خلال المرحلة الجامعية. ومنهم من كانوا متفوقين، لكن لم يكتب لهم مسار متميز بعد الجامعة. كما أن بعضهم اشتغلوا لاحقا لصالح فيكتور المالح في شركاته التي كان جلها بعيدا تماما عن مجال الهندسة.
يقول فيكتور المالح متحدثا عن مرحلة الدراسة الجامعية في فيرجينيا، والتي كانت غير متوقعة، وعكس ما قد يتصورها الذين عرفوا فيكتور المالح في سنوات مجده. إذ إنه كان من المتوقع أن يكون درس في جامعة مرموقة جدا تضم آلاف الطلاب، لكن الواقع كان شيئا آخر: «جربت لعب التنس وكرة اليد. لكن لم يكن الأمر مهما. كانت لدي خبرة أكبر من بقية اللاعبين.
كان أكثر من أثروا فيّ بفرجينيا، السيد «جون كنادي»، والذي أصبح لاحقا المسؤول عن القسم الثقافي والنقد في صحيفة «نيويورك تايمز»، وبفضله انفتحت على أنواع أخرى من الفن غير الموسيقى. كان يُدرسنا تاريخ الفن. كان أستاذا عظيما، وتعلمت منه بخصوص الرسم والنحت والهندسة. وهي أمور لم أكن أعلم عنها أي شيء إطلاقا.
كانت الكلية صغيرة جدا. كان هناك خمسون طالبا فقط في كلية الهندسة كلها. كانت تقع في منطقة «فايرويذر هال» في طريق «ريغبي».
كان هناك 15 إلى عشرين طالبا في كل قسم، وكان عددنا يتناقص كلما تقدمنا في المسار الدراسي، بحكم أن البعض كانوا يغيرون التخصص ويغادرون الكلية. كنا شبانا ذكورا فقط. ولم أحظ إلا بصداقات قليلة، لأن جل الطلبة كانوا جنوبيين..، باستثناء طالب وحيد فقط كان قادما من نيويورك العليا، وكان اسمه «بيلي رينغوود». كان واضحا جدا ومستقيما. كان من النوع الذي يستطيع الجلوس ويشرب الجعة دون أن ينبس بكلمة واحدة لساعات. ولا تصدر عنه سوى ضحكة مكتومة. كان أيضا طالب آخر، يسبقني بسنة، اسمه «جيليرمو دو رو»، جاء من بلاد «باناما». كان ضئيلا ومتأنقا دائما.
كان لدينا في كلية فيرجينيا نظام زي موحد صارم. يتعين على كل واحد منا أن يلبس بذلة وربطة عنق في كل الحصص».
كلية الهندسة التي لم تكن ذات شأن وقتها بالنسبة لبقية كليات جامعة فيرجينيا التي تحظى اليوم بصيت عالمي كبير، وولوجها يتطلب شروطا كثيرة تزداد صرامة في تخصصات دون غيرها، لم تكن قد طالتها هذه التعقيدات عندما كان فيكتور المالح شابا نحيلا في العشرين، بالكاد يتلمس طريقه نحو البدايات.
رافاييل يتنفس الصعداء
كان والده، رافاييل المالح، قد تنفس الصعداء عندما علم أن ابنه تخرج أخيرا من كلية الهندسة. إذ كانت مخاوفه كبيرة سنة 1938 من أن يتابع الابن ما أملته عليه نفسه من تخصص في الموسيقى. لولا أن البرامج الجامعية لم تناسبه إلا في فرجينيا، لربما انقطع عن الدراسة أو تعمق في الموسيقى أكثر. لكن الحظ انتشله، أو هكذا رأى هو نفسه، لكي يُرضي والده ويدخل الهندسة من بوابة الفن. مجالان سوف يأخذانه معا في المستقبل القريب، خصوصا خلال الخمسينيات، لكي يصبح واحدا ممن رأوا في موجة الموضة العالمية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، فرصة لا يجب أن تُفوت.