القرية مستقبل المدينة
تغيير النموذج الاقتصادي أضحى من الأولويات لدى صناع السياسات العمومية في دول العالم. وكل الاقتصادات التي انخرطت دون هوادة في العولمة، هي نفسها التي ستجد صعوبة كبيرة في تعديل نماذجها الاقتصادية. ففي الوقت الذي أغلقت فيه المصانع ظلت المزارع تنتج. فالفلاحة، والاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء أضحيا مسألة حيوية في زمن ما بعد كورونا.
ففي مرحلة ما قبل كورونا، فرضت العولمة تقسيما اقتصاديا على دول العالم. حيث تركز الاقتصاد الصناعي في شرق آسيا (الصين وكوريا الجنوبية والهند وماليزيا)، فيما اكتفت الدول الغربية التقليدية باقتصاد المضاربات، لتأتي في المرتبة الثالثة دول تعتمد في اقتصاداتها بشكل كلي على مواردها الطبيعية وخاصة الغاز والبترول، وفي المرتبة الرابعة تأتي دول لا هي بالصناعية ولا هي بالمالية ولا موارد طاقية طبيعية لها، والمغرب يقع في الصنف الرابع. هذا الصنف وجد في مقولة “الاستثمار في الموارد البشرية” عزاءه. لكن الآن، وبسبب زلزال كورونا تعرضت هذه الخريطة لزلزال غير ملامحها جذريا. خصوصا بعد أن اضطرت كل الدول إلى التنصل من التزاماتها وسن سياسات حمائية أعادتنا إلى العقود الخالية.
ففي مرحلة ما قبل كورونا لم تكن من الضروري معرفة أين يصنع الدواء أو تركب قطع غيار سيارة أو أين تزرع الطماطم أو تنتج اللحوم ما دامت حركية التجارة العالمية حولت مزارع العالم إلى مجرد ضواح لكل العواصم. فقبل أن تصل قطعة لحم أرجنتينية إلى موائد الأرجنتينيين يكون الأمريكيون والأوروبيون على وشك الانتهاء من التهامها. وقبل أن تصل قطرة بنزين إلى سيارات السعوديين تكون صهاريج الأوروبيين قد امتلأت على مدار الساعة.
عندما بدأت سياسات الإغلاق، توقفت سلاسل إمداد الغذاء العالمية، خاصة على صعيد التصنيع الغذائي، وتم إغلاق الأسواق وتم منع وسائل النقل سواء الجوية أو البحرية أو البرية، وتم فرض قيود على حركة الأفراد، وهو ما أدى إلى نقص في الأيدي العاملة المساهمة في الإنتاج الزراعي. وقررت دول منتجة للأغذية بكثرة إلى منع تصديرها خوفا من نقصها بسبب الجائحة.
في زمن ما بعد كورونا، سيتغير الوضع تماما. وبات من المؤكد أن هناك أولويات اقتصادية تفرض على جميع الدول التعويل كلية على منتوجاتها المحلية، وتحديدا المنتوجات الغذائية ذات الأصل الفلاحي. لذلك يتعلق الأمر بنموذج جديد كل الجدة. وهو نموذج لن يكون مجرد تقوية وتكملة لنموذج موجود. ففي السابق كان متخذو القرار يصححون ويطورون نموذجا موجودا سلفا، أما الآن فهم أمام صفحة جديدة، وكل السياسات العمومية التي سيتم وضعها لن تكون على منوال نموذج سابق أبدا.
عالم ما بعد كورونا سيدفع دول العالم إلى الالتفات للأرياف، والتي عانت بسبب سياسات الإغلاق القاسية التي نهجتها. وهذا الاهتمام لن يكون “إحسانيا” أو “خيريا” بسبب هشاشة سكانه بل استراتيجيا لكون الاكتفاء الذاتي من الغذاء يتوقف على المناطق الفلاحية. وفي المغرب أضحت للأمر أولوية خاصة، حيث أثبتت هذه الجائحة أن السياسات العمومية في مجال الفلاحة كانت حاسمة في التخفيف من وطأة الحجر الصحي. إذ في الوقت الذي توقفت فيه كل الأنشطة الإنتاجية، ضمنت المزارع والحقول تزويدا منتظما للمواد الغذائية. وبصرف النظر عن تأثر محاصيل الحبوب بالجفاف، فإن تقييمات الإنتاج الزراعي تظهر حيوية معينة في القطاع، مكنته من إمداد الأسواق بانتظام وتلبية الطلب المحلي.
لقد كانت للجائحة تأثيرات شديدة على المحاور الرئيسية التي يرتكز عليها تحقيق الأمن الغذائي، وعلى رأسها توفر الأغذية، وإمكانات الحصول عليها، واستقرار إمداداتها. فالمغرب ما زال لم يحقق الاكتفاء الذاتي في بعض المواد الغذائية، وإمكانات الحصول على الغذاء تتأثر بشكل كبير بالمضاربين والوسطاء، وهو ما يعني أن ارتفاع الأسعار مثلا لا تعود فائدته على المنتجين والفلاحين والعمال الفلاحيين بل يستفيد منها الوسطاء وسلسلة التموين.
لذلك فالحاجة إلى جعل العالم القروي في صلب السياسات العمومية لما بعد كورونا ينبغي أن تتجاوز الثقافة التي سادت قبل كورونا، حيث يتم النظر له كـ”عبء”. فإلى جانب كون العالم القروي خزانا استراتيجيا للمواد الغذائية هو أيضا عنصر توازن، ذلك لأن عدم معالجة الهشاشة في العالم القروي يجعلها تتسرب للمدن والحواضر، مما يخلق مشكلات أكبر تعقيدا وأكثر تكلفة، اجتماعيا وأمنيا تحديدا. خصوصا وأن 40 في المائة من اليد العاملة النشيطة تتواجد بالعالم القروي.
التفكير العاجل بوضع سياسات لتشجيع هذه الفئة على الاستقرار في العالم القروي مسألة حيوية، خصوصا على مستوى تأهيلها تكوينيا بما يتناسب مع نوعية الأنشطة الفلاحية التي تتم مزاولتها في الجهات التي تقطن فيها. كما ينبغي التركيز على تقليص الفجوة بين سكان الحواضر وسكان القرى، عبر مأسَسَة التقارب بين العالم القروي والبيئة الحضرية، سواء من حيث الدخل وشروط العمل ومستوى المعيشة والاندماج.
وينبغي أن لا يغيب هذا الهدف، في السياق الجديد لما بعد الوباء، عن الحاجة القصوى لضمان الأمن الغذائي. فالمغرب لا يزال غير قادر على ضمان الاكتفاء الذاتي في بعض المواد. حيث لا يغطي الإنتاج المحلي لبعض المنتجات احتياجات الاستهلاك. كما يجب الحرص على تثبيت الأسعار في مستوى يناسب المستوى المعيشي للمواطنين يمر عبر تشجيع الإنتاج المحلي لمنتوجات زراعية نستوردها، ثم تشجيع البحث العلمي بشكل يمكن من تطوير الإنتاج الفلاحي، وثم أخيرا الحرص على أن يستفيد الفلاحون والقرويون من فوائد فلاحتهم بدل أن تذهب الأرباح إلى جيوب المضاربين في المدن.