بقلم: خالص جلبي
مع فجر الحياة البشرية وطفولة العقل الإنساني وعجز البشر عن إدراك السنن المبثوثة في الآفاق، سيطر على الإنسان الخوف من الطبيعة، فبدأ يحاول استرضاءها بالتضحية بالإنسان كـ(قربان)، ومع ولادة الحضارة الإنسانية قبل ستة آلاف سنة أصيبت بلوثة الحرب، التي تطلبت هذه المرة قرابين بشرية بكميات هائلة لا يحصيها العدد ولا يضمها مداد، كي تشبع نهم آلهة الحرب الجدد.
ثم جاء الأمر الإلهي لإبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، حتى إذا امتثل للأمر أنزل الله فداءه، ليكون دلالة على أن أثمن وأعظم كنز يجب المحافظة عليه وصيانته هو (الإنسان)، فكل ما في الوجود مسخر للإنسان، خليفة الله في الأرض بموجب إعلان من الله في ذلك.
لنفتح صفحة التاريخ ونقرأ..
«مع ساعات الصباح الأولى، اجتمع حشد عظيم من الناس حول المعبد في مدينة (تينوشتيتلان) العاصمة، وعلى سفح المعبد تمدد شاب جميل الصورة، قوي البنيان، قد أمسك به أربعة من الكهنة وأوثق بالحبال، ثم عبق البخور وتصاعدت الترانيم الدينية، وتقدم رئيس الكهنة بلباس فاخر بألوان زاهية، وبيده خنجر صقيل مرهف النصل، فقرأ بعض الأدعية لم يلبث بعدها أن أدخل نهاية السيف القصير الحادة في صدر ذلك الشاب البئيس، ليصرخ صرخة الموت من الرعب والألم، ولتسرع يد الكاهن إلى داخل جوف الصدر، فتحرر القلب بسرعة بقطع العروق الدموية المتصلة به، ثم لا يلبث الكاهن أن يخرج القلب وهو يخفق بين أصابعه أمام الجمهور المنتشي بهذا المنظر، ويغيب صوت الشاب الذي يغرغر في سكرات الموت، تحت هتاف الجمهور واستحسانه، ويسقط البدن على درج المعبد، وقد اغتسلت الجنبات بالدم الشرياني الأحمر الزاهي، في الوقت الذي ترتسم فيه على وجوه الكهنة ابتسامات الارتياح بتنفيذ المهمة!».
هذه الطقوس كانت منظرا اعتياديا سنويا لحضارة (الأزتيك) (1) في أمريكا الوسطى، حيث عاصمتها تينوشتيتلان التي أصبح اليوم اسمها نيو مكسيكو، بعد أن دمر الإسبان حضارتها، وقضوا على آخر آثارها وواروها التراب بطريقة (قربان آخر) ألغى القربان الأول بقرابين الحرب الجديدة. وهكذا التقت حضارة (القربان القديم) مع حضارة (القربان الجديد)؛ الأولى يقوم بها الكاهن بالتضحية بشاب وسيم قوي، والثانية بتقديم (أمة بكاملها) على المذبح التاريخي الجديد، بل حتى يتم تقديم القربان الجديد تحت مبرر إلغاء حضارة القربان القديم بالتضحية بالإنسان، وأن هذا الاختلاط بين (قربان الإنسان) و(قربان شعب) يحتاج إلى تسليط الضوء عليه، من خلال موقف إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، الذي كان ثمرته أن لا تضحية بالإنسان بعد اليوم «فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أن كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم».
هذه العادة قديمة قدم الجنس البشري، وكما يقول المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في كتابه «قصة الحضارة»: «والظاهر أن التضحية بالإنسان قد أخذ بها الإنسان في كل الشعوب تقريبا، فقد وجدنا في جزيرة كارولينا في خليج المكسيك تمثالا كبيرا معدنيا أجوف لإله مكسيكي قديم، فوجدنا فيه رفات كائنات بشرية لا شك أنها ماتت بالحرق قربانا له، وكلنا يسمع (ملخ) الذي كان الفينيقيون والقرطاجيون وغيرهما من الشعوب السامية حينا بعد حين يقدمون له القرابين من بني الإنسان (2)».
وتذكرنا مواقف عمر بن الخطاب، أثناء الفتح الإسلامي لمصر، مع العادة التي كانت سائدة هناك، بتقديم فتاة سنويا تلقى حية للنيل، بدعوى خصوبته وقذفه بالطمي المناسب، فلما سأل عمر ـ رضي الله عنه ـ عما يفعلون أرسل إليهم رسالة طلب منهم أن يلقوها في النيل، وكان فيها ما يلي: «من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر، يا نيل إن كنت تجري بسنة الله فاجري كما كنت تجري، وإن كنت تجري بسنة الشيطان فلا حاجة لنا بجريانك». وأنقذت فتاة ذلك العام من الموت غرقا، وأبطلت تلك العادة منذ دخول الإسلام أرض مصر.
لعل مصدر فكرة «القربان» هو الخوف من الطبيعة عند الإنسان البدائي، الذي لم يستطع تفسير الظواهر الكونية التي أرعبته.
يقول ديورانت: «الخوف كما قال لوكريشس، وخصوصا الخوف من الموت، فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار، وقلما جاءتها المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعية، فقبل أن تدب الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل، كانت كثرة من الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف، ومن هنا لم يصدق الإنسان البدائي أن الموت ظاهرة طبيعية، وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة» (3).
ومن جملة الإشكاليات العقلية للعقل الإنساني البدائي (الطفلي)، أن ذبح الإنسان ورش دمه في الأرض وقت البذر يجعل الحصاد أفضل (4)، ولذا فإن ظاهرة القربان البشري كانت شيئا مكررا في التاريخ في محاولة إيجاد جواب لفهم للطبيعة، أو في حل إشكالية أضخم من ذلك، حيث نشأت بذور الحرب كمرض كرموسومي مرافق لولادة الحضارة الإنسانية (5).
كان مبرر التضحية بالإنسان اثنين: الأول على النحو الذي ذكرنا «الخوف من الطبيعة ومحاولة استرضائها»، والثاني لأكله! وهو معروف وشائع «الكانيباليزم»، بل ما زالت بعض بقايا القبائل التي أدركها التاريخ المعاصر عندها هذه الظاهرة، وهي حقيقة لا نكاد نتصورها، ولكنها واقعة مسجلة! (6) إلا أن ظاهرة الحرب أصبحت قربانا هائلا مخيفا من نوع جديد، وكانت إفرازا لتكون الدولة ونمو الحضارة في فجر التاريخ البشري؛ فالدولة نشأت على العنف، إلا أنها وحسب الخط الذي بنيت عليه أصيبت بعدوى العنف نفسها إنما بشكل آخر؛ ففي الوقت الذي استطاعت الدولة تأمين الأمن الداخلي، نقلت العنف إلى مستوى الاصطدام مع الدول الأخرى، ويبقى هذا العنف المسيطر عليه ضمن الدولة الواحدة كامنا تحت الرماد، حتى ينفجر بأفظع صورة في إطار صورة الحرب الأهلية، كما يعرف ذلك مؤرخو الحروب الأهلية كما في الحرب الأهلية الأمريكية ـ الإسبانية ـ الروسية أو أفغانستان، أو كما شاهدناه في رواندا، حيث تم مسح 800 ألف إنسان من خريطة الحياة، على مدى أسابيع قليلة، أو في سجل العار في البوسنة، ولاحقا مع النظام الأسدي وأشباهه في الشرق الأوسط، حيث تم قتل مليونين واعتقال أربعة ملايين وتصفية مئات الآلاف في المعتقلات، وتهجير نصف السكان في حفلة رعب جماعية والعالم وأوباما ينظران بعين ضفدع.
إن فداء إسماعيل ومشروعية الأضحية إعلان ضمني للسلام العالمي، والله لن يأكل اللحم ولن يشرب دم الأضحية، بل النية والتقوى «لن ينال الله لحومها ولا ماءها، ولكن يناله التقوى منكم».
إن مظاهرة الحج الكبرى هي قمة السلم في الاجتماع الإنساني؛ فليس هناك من مدينة على وجه البسيطة إلا ومنها حاج قد جاء على ضامر بشكل أو آخر، وقد تكون ضامرات المستقبل الصواريخ أو القطارات المغناطيسية الطائرة، وكما يجتمع المسلم مع أخيه المسلم في حلقات تكبر بشكل متصاعد، بدءا من حلقة الحي في المسجد ومرورا بصلاة أهل البلد الواحد معا خارج البلدة في صلاة العيد؛ فإن الحج الأكبر هو اللقاء الكوني الأعظم، ولذا ناسبه خطاب عالمي ومن أهم خطاباته إعلان السلام العالمي.
إن جوهر الحج لا يدركه كثير من المسلمين الذين يحرصون على تأديته، حيث يجب أن يحقق الهدف منه بهذه المعاني الضخمة، التي كرسها لتكون ينابيع للشحن الروحي السنوي لكل العالم الإسلامي والعالم أجمع.
يجب أن نعلم أن ظاهرة الحج كانت أيضا قبل بعثة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن إبراهيم عليه السلام دشنها قبل أربعة آلاف سنة، بل إن القرآن يشير إلى أنه أول بيت وضع للناس فوجوده منذ أمد طويل وكان «حراما»، أي يحرم فيه قتل الإنسان.
ولتأكيد أهداف هذا الحج حرص الإسلام على تشريع حصانة «الأشهر الحرم»، لأن الإنسان كان قبلها «ويتخطف الناس من حولهم»، فهذه البقعة هي مكان تجربة رائدة في محاولة لتعميمها على الجنس البشري، كي يتم تحويل الكرة الأرضية إلى بحيرة سلام وأمان وسعادة، ولقد نجحت هذه التجربة في مساحتها الضيقة وصمدت عبر آلاف السنين، لذا كانت مهمتها الأساسية هي شحن روح العالم كله بروح السلام، والتوقف عن التضحية بالإنسان وجعله قربانا لأي شكل من أشكال أوهام القوة لآلهة كاذبة وأصنام زائفة ودعاوى باطلة، تحت شعارات لا تنتمي وطروحات لا تتوقف.
إن هذا المعنى الضخم يحتاجه العالم اليوم، والعالم العربي بشكل خاص، بعد أن تحولت أوضاع العالم العربي إلى ما يشبه الحرب الأهلية المبطنة والظاهرة في كل مكان، والتي هي وباء عام في الثقافة العربية عموماً.
إننا نحتاج في العالم العربي إلى إعلان ميثاق الأمن والأمان الاجتماعي للإنسان الذي يعيش فيه حاكما أو محكوما، من أجل إعادة الحوار لأطراف الوجود الاجتماعي.
إن قصة «القربان» الموجودة في القرآن، أثناء احتدام الصراع البشري بين ولدي آدم، شيء بديع (7)، لأنها تذكر بمشكلة التضحية بالإنسان، وأسباب الصراع الإنساني ونتائجه المأساوية.
إن القربان لم يتقبل من الفاشل، فأصر على القتل بدعوى التزوير في الانتخابات، في حين أن الناجح شرح خطته المستقبلية وهي التخلي عن القوة من طرف واحد، وهذا الأسلوب في حل المشاكل لم يستوعبه العالم، ولم يدرك أهميته مطلقا «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين» أن الطرف الفاشل المهزوم يرى أنه على الحق المطلق والآخر مارق يستباح دمه، وبذا انعدمت عنده آلية المراجعة والنقد الذاتي، وبالتالي الحوار، وبذلك فليس هناك من حل للمشاكل إلا بالتصفية الجسدية للطرف المقابل، أي إلغاء الطرف الآخر، في حين أن الطرف الآخر لم يلجأ إلى القتل، لذا فهو يحاور وهو يوقف بذلك حلقة الصراع الشيطانية بالتوقف عن استخدام القوة من طرف واحد.
المراجع والهوامش:
(1) حضارة الأزتيك عمت أمريكا الوسطى في المكسيك حاليا، وكانت عاصمتها تينوشتيتلان، وقد دمرت على يد الإسبان تدميرا كاملا، بحيث لم يبق منها في الوقت الراهن من يستطيع فك رموز كتابتها، وكتب عنها المؤرخ الألماني أوسفالد شبينغلر في كتابه الموسوم «أفول الغرب» فصلا داميا حزينا عن النهاية المروعة، التي تعرضت لها هذه الحضارة.
(2) «قصة الحضارة» ـ ويل ديورانت – الجزء الأول – ص: 113 – 114.
(3) ويل ديورانت ـ «قصة الحضارة» – جزء أول – ص: 99.
(4) ويل ديورانت ـ «قصة الحضارة» ـ الجزء الأول ـ ص: 113، وعند هنود جواياكيل «فرجل يضحى به في وقت البذر حتى تخضب الأرض بدمائه، حتى إذا حل موسم الحصاد فسروه بأنه بعث الرجل الذي مات ضحية».
(5) الخطأ الكروموسومي هو خطأ في نفس تركيب الخلية، حيث تعتبر الكروموسومات هي الشيفرة السرية للتخطيط الهندسي الكامل للبنية البيولوجية، وبذلك فإن المرض البكتريولوجي يعتبر بسيطا لأنه طارئ ويعالجه البدن، أما الخطأ الكروموسوي فقد أصبح من تركيب البدن بالذات، فلا أمل في معالجته إلا بتقنيات رهيبة يسعى إليها العلم جاهدا اليوم.
(6) حضارة الأزتيك عمت أمريكا الوسطى في المكسيك حاليا، وكانت عاصمتها تينوشتيتلان، وقد دمرت على يد الإسبان تدميرا كاملا، بحيث لم يبق منها في الوقت الراهن من يستطيع فك رموز كتابتها. وكتب عنها المؤرخ الألماني، أوسفالد شبينغلر، في كتابه الموسوم «أفول الغرب» فصلا داميا حزينا عن النهاية المروعة، التي تعرضت لها هذه الحضارة.
(7) «قصة الحضارة» ـ ويل ديورانت ـ الجزء الأول ـ ص: 113 ـ 114.