القرآن وبناء العقل السنني بعيدا عن أسلوب المعجزة
بين مفهومي السنة والخوارق: الفكر التقليدي يفهم أن المعجزة كسر للقانون واختراق للسنة، وحتى تثبت القدرة الإلهية يجب بناء الفوضى؛ فلا يوجد خلف القانون إلا اللاقانون.
الفكر الإسلامي التقليدي يفهم أن قدرة الله لا تظهر إلا بقدر خرق قوانين الطبيعة، وأقوى برهان على وجود الله زعزعة الثقة في نظام الطبيعة، وهو جهل بالله وبالطبيعة على حد سواء، على حد تعبير فيلسوف التنوير الهولندي سبينوزا.
وبالطبع فإن فكرا من هذا الحجم ضرب العالم الإسلامي في مفاصله بالشلل. المعجزة تخضع للقانون بشكل نوعي، سوف نحاول فك جزء هام منه، أما الأسلوب المعهود فهو طريقة وأسلوب لم يدفع جميع الناس إلى الإيمان، فناقة صالح عقرت، وتسع آيات بينات من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم لم تفعل شيئاً أمام جبروت فرعون وقساوة قلبه، وبقدر غزارة خوارق المسيح قفز مسلسل البطش بالمسيح إلى حافة المصلبة (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه) كما راهن عليه المشعوذون والدجالون والأنبياء الكذبة ومازالوا، والمسيح الدجال سوف يقوم بحملة معجزات تؤكد كذبه إلى درجة إحياء الأموات كما جاء في جملة أحاديث.
لماذا لم يعتمد القرآن أسلوب المعجزة القديم مع إلحاح من حول نبي الرحمة (ص) بذلك، بل وربما أيضا أدخل على روع التابعين من الصحابة أنه أسلوب سوف يشد أزرهم. مع ذلك لم يلجأ القرآن إلى هذا السلاح المؤقت ليعتمد أسلوبا مختلفا تماما. لماذا هو مؤقت؟ لأن انشقاق البحر رآه قوم محدود عددهم، ولفترة عابرة، وما بقي منه ما خلده التاريخ المكتوب، فهل ثمة طريقة إلى الكشف عن معجزة دائمة شاملة يراها الجميع وفي كل وقت؟
ما سمي بالمعجزة وتم فيها خرق القانون، وتدشين الاستثناء، هي أيضا ظاهرة خاضعة لسنة الله في خلقه، مجهولة الكيفية لعقولنا، بسبب غموض قانونها أمام وعينا وقصور علمنا وقتها؛ فالله أجرى الوجود وفق سنته التي لا تتحول ولا تتبدل.
مع ملاحظة إن إرادة الله الطليقة يمكن أن تبدل كل القوانين وتستبدل بها أخرى، ولكن شاءت إرادته تنظيم الكون وفق قوانين من مستويات متعددة وعلى هذا بني الكون.
أما المعجزة فهي تعتمد الخلاب والخوارقية، والقرآن حرَّم على نفسه هذا الاتجاه، بقصد بناء عقل منهجي سنني؛ فلم يستجب لطلبات المشركين الصبيانية، بالاستجابة إلى لائحة معجزات بدون حدود، تتراوح بين فتح بئر ماء ارتوازي في الأرض، وبستان تفاح وعنب، وفيلا أنيقة، أو العثور على كنز روماني في الأرض، إلى إحضار الله شخصياً مع الملائكة في ما يشبه الاستعراض العسكري!
تأمل الآيات القرآنية من سورة الإسراء وعشرات أمثالها يزخر بها القرآن:
(وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا. أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه. قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا؟؟ (الإسراء الآيات 90 حتى 93).
بناء العقل من جديد (السنة ـ التسخير): المعجزة محدودة الزمان، محدودة المكان، محدودة الرؤية من أشخاص بعينهم، لجيل معين في لحظات معينة لا يمكن تكرارها، فلا يمكن يومياً شق البحار، وقلع الصخور لتنبجس بالماء، واستخراج الجمال من الأرض. ولكن القانون المتعانق مع العلم وجدلية العقل، يسخر الكون كله يومياً، في كل وقت، من خلال الإمساك بمفاتيح سننه.
القانون يمنحنا السيطرة على الكون: الدجالون والمشعوذون والأنبياء الكذبة والمهدي الدجال كلهم تجرى على أيديهم معجزات، ولكنهم لم يكسبوا الأتباع، ولم يتركوا لأنفسهم تاريخاً سوى الهزء والسخرية والتندر وسوء الاسم، كما في قرآن مسيلمة الكذاب، بسبب بسيط أنهم اعتمدوا الخارق والأسطوري والخلاب.
ترك التاريخ لنا بعض (سور) مسيلمة من قرآنه المزعوم. قال الرجل «إذا كان محمدا (ص) نزلت عليه سورة (البقرة) فقد نزلت علي سورتا (الفيل) و (الضفدع)»:
(الفيل وما أدراك ما الفيل له خرطوم طويل وذنب وثيل) ثم (يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين، نصفك في الماء ونصفك في الطين)؟!
بتحليل بسيط لسور مسيلمة نرى اعتماده فيه على الصفات الفسيولوجية لا أكثر أما سورة الفيل في القرآن فهي مرتبطة بذكرى التحرير من طاغية زحف عليهم من الحبشة لاستعبادهم فباد واندثر مثل كل طواغيت الأرض. هنا في القرآن يجتمع جمال الكلام وروعة المعنى. وهو سر التفوق القرآني أنه ليس جمالا في العبارات والمباني بل رسالة التحرير المتضمنة في الكلمات.
كذلك سورة البقرة هي تخليد لقوم حملوا الرسالة وفرطوا وتحولوا إلى قوم مشاكسين مزعجين مترددين؛ فأتى موسى ليدخل عقولهم بطريقة ميدانية، من ضرب لحم البقرة بجسد ميت مقتول؛ ليقوم فينطق باسم القاتل.
اعتمد القرآن سنة الله في خلقه التي لا تتبدل ولا تتحول، وكان حريصا على ذلك لينقل للبشر رسالة اكتشاف الكون وسننه التي لا تنتهي.
إذا كنا سنعرف الله ونؤمن به، من خلال الخلاب والأسطوري، وخرق القانون وإدخال الاضطراب إلى نظام الطبيعة؛ فهذا منهج أقرب إلى الإلحاد منه إلى الإيمان.
لم يعتمد القرآن ولم يراهن على استخدام هذا الأسلوب، وقال عنه إنه كان يستخدم للتخويف ولم ينفع، فكان أسلوباً بدائياً قديما، ربما نفع فيما سبق، لكنه مع نمو البشرية توقف مفعوله، مثل الأدوية ومدة فعاليتها. وحتى في حدوثه اعتمد ينابيع القوانين الدفينة في الطبيعة، فلم يكن خرقاً لها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفا.
من الغريب أنه مع كل إلحاح القرآن وطبيعة الانتصارات التي حققها نبي الإسلام باعتماد القانون والمنهجية والعقلانية وافتتاح عصر جديد، بقدر ما كُبت ثقافتنا على وجهها باتجاه السحري والأسطوري والخلاب، فكتب معظم تراثنا بهذا الضوء، بل وسطرت السيرة على شكل كرونولوجيا من الغزوات والخوارق، على نحو غير مفسر وغير مفهوم، قادت الفكر الإسلامي إلى وضع الكارثة التي نعيشها في الوقت الراهن.
فكرة ختم النبوة عند إقبال: عند هذه النقطة بالذات رسخ الفيلسوف (إقبال) مفهوم ختم النبوة على نحو رائع. فقال عن الرسول (ص) أن رسالته تمتاز بكونها تشبه الرسالات التي سبقته بنفس السياق والتسلسل؛ فلم يكن بدعا من الرسل، ولكنه يختلف عنهم بفتح عصر جديد. فما معنى ختم النبوة؟
إنها فكرة عملاقة تعني نهاية مرحلة توجيه الإنسان ليقوم بنفسه، فالنبوة تحولت هكذا من نموذج قديم إلى نموذج لا ينقطع مطلقاً، من نوع جديد يعتمد زخم العقل والعلم، وآيات الله في الآفاق والأنفس، والكشف عن مصادر الطبيعة والتاريخ، وسنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
مع هذه الفكرة ينتهي عصر (الخوارق والتفوق والامتيازات) فلا نبي بعد، ولا خوارق تدشن، وليس هناك من كاهن يعتمد، أو عراف يصدق، ووقت السحر ولى، والعلم هو الذي سيحتل الساحة من خلال الكشف عن القانون وتسخيره في كل مستوى.
لو عرض اليوم الفاكس معكوساً ألف سنة إلى الخلف لاعتبروه خارقاً معجزاً، ولو استخدم التلفون أو الكمبيوتر فيما خلا لكان معجزة لا ذرة للتردد فيها.
أعرف أن هذه الأفكار علمية اختراقية حساسة خطيرة، ولكنني أراها تعمق الإيمان ومفهوم السنة، فبقدر ما كان عالم ما قبل الإسلام خوارقياً أسطورياً خلاباً، بقدر ما كان الإسلام دين العقل والعلم والسنن، أو هكذا أزعم.
عندما كنت أستخدم الفاكس قلت سبحان الذي سخر لنا هذا، علق جراح الأعصاب الحلبي بجنبي: ولكنها آية في تسخير الدواب؛ فلم يستطع تصور أن الآية تناول في معناها المصعد والفاكس والغسالة وكل طاقات الكون، التي تنتظم تحت تعبير التسخير، في شهادة واضحة إلى كساح عقل المسلم، وحاجته لجراحات فكرية متطورة، وقبلها حل عقدة الحداثة السيكولوجية.