حين كنت أقرأ آخر سورة «النحل» اختلط علي مفهومان؛ الأمن والطمأنينة، تقول الآية: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان). ثم يمضي السياق فيتحدث عن الانحراف، بقوله: (فكفرت بأنعم الله). تتابع الآية شرح النتيجة: (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون).
نرى في مطلع الآية ثلاثة أمور، أما العاقبة فتختم في أمرين، وهو مكرر جدا في القرآن كما في سورة «قريش»: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). أعترف للقارئ بأن المعنى لم ينقدح في ذهني، حتى قرأت الآية من سورة «الأنعام» عن الجدل الذي تم بين إبراهيم وقومه، ليختم النقاش بآية تفيد الأمن مقابل العدل أو الظلم وضياع الأمن. (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون). ولكن ما الفرق في آية سورة «النحل»، بين كلمتي (آمنة) و(مطمئنة)؟ هذا أيضا لم يتوضح لي، حتى وقعت تحت يدي دراسة من علم النفس عن شيء اسمه هرم الحاجيات الإنسانية، لعالم النفس «إبراهام ماسلو». فعرفت أن الأمن اجتماعي، أما مفهوم الطمأنينة الذي يفيد تلك القناعة القلبية العميقة عند الفرد، كما في إبراهيم مع مشهد الحياة في الطيور الميتة، أو حواريي عيسى مع إنزال المائدة، بل كما في سورة «الرعد» التي تتحدث عن الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. لكننا هنا في البحث الذي بين أيدينا سوف نسلط الضوء على فكرة الأمن الاجتماعي وعلاقة ذلك بالعدل، ثم علاقة الأمن الاجتماعي بانبثاق الحريات مثنى وثلاث ورباع.
يذكر الكاتب «إمام عبد الفتاح» في كتابه «الطاغية» أن العادة جرت في بلاد الفرس أنه إذا مات العاهل، لا ينصب ملك جديد، بل يترك البلد بدون حكومة وقانون، في حالة فوضى عارمة، يأكل الناس بعضهم بعضا ثلاثة أيام، حتى إذا بلغت الفوضى ذروتها؛ جاء الملك الجديد فقمع الفوضى بقوة السلاح والجند، وأقام الأمن واستقرت أحوال الرعية.
كل هذا من أجل اكتشاف أهمية الدولة وحكم القانون في حياة البشر، مما يمكنهم من متابعة الحياة، فيعيش الناس آمنين على أنفسهم، فبدون الدولة والأمن الاجتماعي يتحول المجتمع إلى غابة من الذئاب والضواري يفترس بعضهم بعضا؛ فهذه هي فلسفة ولادة الدولة بكل أسف.
وحسب الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل» في كتابه «القوة Power»، فإن مصير الإنسان كان بين فوضى الغابة وطغيان المجتمع، وكلا النتيجتين مدمرتان. وكان الخيار الأفضل أن يمضي باتجاه المجتمع، فرارا من فوضى الغابة غير المحتملة، على أمل تهذيب المجتمع الإنساني مع الوقت. والمجتمع كما يقول «ابن خلدون» في (مقدمته) يشكل ضرورة لازبة لبقاء الإنسان، مقابل التورط في الوقوع في قبضة أنظمة سياسية، بأذرع حديدية؛ فالعجل مثلا وبمجرد ولادته يمشي بسيقان، أما الإنسان فهو أضعف الكائنات بالولادة، ويحتاج إلى رعاية اجتماعية طويلة. وحسب وجهة نظر علماء الاجتماع، مثل «بيتر فارب» في كتابه «بنو الإنسان Humankind»، أن الفرد منا لا يصبح إنسانا (ناطقا) بدون العيش في مجتمع إنساني. ثبت ذلك من تجربة (صبي أفيرون) الوحشي الذي عاش في الغابة، وتم اصطياده عام 1799 م، وحاول الدكتور «إيتار كسبار» عبثا أن يعيده إلى الحضيرة الإنسانية؛ فلم يفلح، وكانت العقبة الكأداء الأساسية هي في تعلم اللغة؛ فالطفل الذي لا يتعلم اللغة في سنواته الأولى، تفوته هذه الملكة بدون رجعة. ومن تعلم لغة واحدة ـ أي لغة إطلاقا ـ أمكنه أن يتعلم العشرات بدون مشقة، مثل نظام (الدوس DOS) في الكمبيوتر
هذه التجربة القاسية تم تكرارها على يد الفرعون «بسماتيك الثاني» وملك صقلية «فريدريك»، وكلها انتهت إلى النتائج نفسها، وهذا يوصلنا إلى مجموعة من الحقائق تقول:
(1) ـ الإنسان الذي يولد خارج المجتمع الإنساني ينقلب إلى حيوان.
(2) ـ والإنسان كائن اجتماعي.
(3) ـ ومن يحول الإنسان من كتلة لحم إلى إنسان هو المجتمع؛ فكان المجتمع بذلك؛ وبكلمة جامعة مانعة هو من يجعل الإنسان إنسانا، وكان المجتمع بذلك هو حوض التشكل الإنساني.
(4) ـ ونظرا إلى أن الإنسان فردي، في الوقت نفسه الذي هو كائن اجتماعي، فقد ترتب على هذا محاولات لانهاية لها لإنتاج نظم حكم لتنظيم النشاط الإنساني، فالمجتمع في النهاية ليس كومة من الأفراد، بل شبكة من العلاقات الاجتماعية، ومعظم النظم السياسية إن لم يكن كلها، لم تفلح في حل المشكلة الاجتماعية، وإيجاد صيغ عادلة من الأنظمة السياسية.
وكما جرب الجنس البشري شتى أنواع العلاقات الجنسية، فإن حظ السياسة لم يكن كذلك.. ويمكن لطاغية متهور أن يركب رقبة شعب كامل بأفضل من برذون مسرج. وحسب «سكينر»، عالم النفس السلوكي، في كتابه «ما خلف الحرية والكرامة»، فإن علوم الطبيعة قفزت على نحو هائل، ويمكن لطالب ثانوية أن يعلم سقراط وأفلاطون وأرسطو ما لم يعلموا، ولكن نقاشات السياسة في البرلمانات لم تتقدم شيئا مذكورا، وما زال السياسيون الكذابون المهرجون يقودون أمما بعدد النمل والنحل إلى الضلالة. وهذا النوع والتعدد من أشكال نظم الحكم يقول إن المحاولة الإنسانية ماضية في طريقها للصياغة الصحيحة، وصيغة الديمقراطية الحديثة ليست الشكل النهائي، كما إنها ليست العادلة تماما، بل هي أحيانا خدعة كبرى، وليس من مكان تزور فيه إرادة الناس مثل الكثير من انتخابات العالم الثالث، التي فيها مجالس شعبية لا تزيد على مجالس للتصفيق والطرب والتهريج.
(5) ـ وأن الدولة تقوم على القوة، وتحتكر العنف من طرف واحد. وبعد قيام الدولة على القوة، تأتي المشروعية في صور شتى، ولكن الحقيقة المخفية من الداخل هي القوة. يكفي النظر إلى شرطي المرور والمسدس مدلى من جانبه، فكلها صور من القوة العارية بتعبير الفيلسوف «راسل»، مذكرة أن المجتمع مضبوط بإطار حديدي من القوة؛ فهذا هو الجانب المظلم من قيام الدول. ولكن الجانب الإيجابي والمشرق، هو أن احتكار القوة يأتي مقابل توفير الأمن للأفراد.
(6) ـ وهكذا فوظيفة الدولة الأولى، هي توفير الأمن للناس.
(7) ـ وفي ظل الأمن تنشأ الحضارة؛ فالحضارة هي نشاط إنساني مشترك، وشبكة علاقات معقدة كما يقرر ذلك ويل ديورانت في كتابه «دروس من التاريخ».
خالص جلبي