القذافي صفحة مظلمة من التاريخ
بقلم: خالص جلبي
بتاريخ 23 يوليوز من عام 2007م كان الناصريون يحتفلون بعجل السامري، ثورة الضباط الأحرار، كما يحتفل كاسترو كل عام بذكرى الانقلاب الفاشل في الهجوم على ثكنة موناكادو. وفي التاريخ نفسه، كانت محكمة القذافي تعلن عن الوصول إلى حكم نهائي في قضية الممرضات البلغاريات، اللواتي كان قد أعلن في ما سبق أنهن كن السبب في نقل مرض الإيدز للعديد من الأطفال عن طريق نقل الدم الخاطئ من دم ملوث.
دخلت في نقاش مع زوجتي عن طبيعة الحكم الذي سيصدر، وكانت توقعاتي لها أن القذافي أو محاكم القذافي الثورية ـ باعتبار أن القذافي لا يحكم، بل الشعب بلجانه الثورية – سوف تبرئ ساحة الممرضات ولو بلغت خطاياهن عنان السماء، فهذا سوف يرضي الغرب، والرجل يهمه رضا الغرب عنه بأي ثمن، طالما كان ذلك سوف يمد في عمر العرش السلطاني ردحا من الزمن.
وفعلا صدقت توقعاتي ليس من ذكاء وسعة علم، بل من واقع عربي ميت، والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.
والسبب أن العمل الطبي في العالم العربي يشبه كثيرا الوضع الثقافي، وحين يضرب الطاعون السياسي المنطقة، فمعه الطاعون البيولوجي تلقائيا.
وهذا يعني وأنا أتفهم هذا الموضوع، أن الممرضات البلغاريات هن حلقة في سلسلة طويلة. وروى لي ممن أثق به أنه كان يعمل في ليبيا فلم يعرف كيف يفر منها، ولم يكن الأول الذي فر ولن يكون الأخير. وقصة الممرضات البلغاريات هي سياسية قبل أن تكون طبية، بكلمة ثانية هي لوكربي جديدة. ومن يقرأ التاريخ يفهم .
ففي يوم الثلاثاء 10 غشت 2004، توصل وفد ليبي وممثلون عن ضحايا اعتداء ملهى (لابيل) في برلين عام 1986 إلى اتفاق ينص على أن تدفع ليبيا مبلغ 35 مليون دولار كتعويضات للضحايا، وهو اعتراف بالجريمة وانسحاب من موقف البطولة إلى مواجهة الواقع المر.
وقبل هذا وفي 9 يناير من عام 2004 اتفقت فرنسا وليبيا على مبلغ 170 مليون دولار، وكانت نهاية مطاف التفاوض حول التعويضات التي يجب أن تقدمها ليبيا لضحايا الطائرة الفرنسية (يوتا)، التي انفجرت فوق صحراء النيجر عام 1989 وقتل فيها 170 شخصا.
وكانت ليبيا قد دفعت مبلغ 33 مليون دولار على مدى السنوات الماضية، لفشلها في تسليم ستة أشخاص مشتبه بهم في حادث الطائرة الفرنسية. والطامة الكبرى كانت في 22 غشت 2003، حينما اعترفت ليبيا صاغرة بمسؤوليتها عن تفجير الطائرة التي انفجرت فوق مدينة (لوكيربي) الأسكتلندية، وقتل فيها 259 شخصا، واعتمدت ليبيا دفع مبلغ 2.7 مليار دولار لعائلات ضحايا الطائرة الأمريكية، بعد أن أقر القذافي بمسؤوليته عن حادث التفجير بعد عناد ومواجهات، تذكر بقصة جحا وكيسه. ففي يوم صرخ جحا في السوق أنه أضاع (خرجه) الذي يضعه على ظهر الحمار، وأقسم بالله أنه سوف يفعل الأفاعيل إن لم يرجعوا له كيسه. فصدق القوم الخبر وبذلوا أقصى الجهد حتى أعادوا إليه الكيس، ثم تقدم أحدهم فسأله: «يا جحا ما كنت فاعلا لو لم نجده؟»، فالتفت إليه جحا وقال: «كان عندي كيس قديم كنت سأستخدمه بدلا عنه». وليس أبغض على النفس من الانتقاد ولا تسكر النفس بخمر كالثناء والويل للمغلوب، ولذا فليس من شيم الكرام الشماتة أو مزيدا من النيل، ولكن يبقى تساؤل ما الذي جعل القذافي ـ وهو ليس الوحيد في عالم العروبة – الذي يستدير 180 درجة في حركته فيستدبر المغرب وهو يطلبه، بتعبير أبو حامد الغزالي؟ ولماذا هذا التحول في المواقف الراديكالية من اعتبار الغرب شيطانا مريدا إلى ملاك رحيم. ونحن نعرف في الفلسفة أن البشر ليسوا ملائكة ولا شياطين، بل عباد الرحمن الذين يخطئون ويصيبون ويصعدون ويهبطون؟ وأتذكر من (مالك بن نبي) المفكر الجزائري الذي تحدث عن مرض الطفولة في عالم السياسة، وأن تربية الطفل تبدأ منذ أيامه الأولى، بل وربما في الرحم، وعندما يصل الطفل إلى المدرسة تكون برمجته الثقافية قد انتهت. وهناك فرق بين الثقافة والعلم؛ فالطبيب الألماني والنيجيري يدرسان نفس علوم التشريح والفيزيولوجيا (علم الغرائز)، ولكن في الحياة العملية يعتمد الأول مبدأ (الفعالية)، والثاني (كل) على مولاه أينما توجهه لا يأتي بخير هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، فهذا هو السر في تفوق الحضارة في أرض، وقتلها في مكان آخر. ومما ذكر مالك بن نبي أن العرب تصرفوا في حرب 67 بمنطق الانقلاب، من اعتبار إسرائيل (دويلة عصابات) إلى (تنين نووي) فقاموا بالصراخ مثل الأطفال، لأن الطفل غير المربى يعتمد على البكاء في حل مشاكله، والطفل المربى يعتمد الحوار مع أهله. فهذه قوانين في التربية. ويبقى سقوط الجولان ضمن هذا التفسير من البكاء، عسى أن يتحرك العالم ليسعف العرب. ولكن قانون التاريخ يمضي وفق شيء آخر غير صراخ وتصرفات الصبيان. والغرب منافق، فقد أوردت مجلة «الشبيغل» كيف بدأ الغرب بامتداح القذافي واعتباره نموذجا رائدا في عالم العرب، والسبب هو عدم مقاومته أكثر من نزاهته.
وغاندي ما زال الغرب حتى اليوم يخشع لذكره فهذا هو الفرق بين النضال الإنساني، وأعمال المراهقين غير الناضجين.