القاسم الانتخابي بين فحوى الدستور والممارسة الانتخابية
محمد يحيا
استأثر القاسم الانتخابي باهتمام الرأي العام قبل الانتخابات التشريعية المقبلة، والنقاش بهذا الصدد لا يمكن أن يكون مقتصرا على الإشكاليات التي تطرحها ضرورة اعتماد قاسم انتخابي جديد، بل يتعداه إلى تحليل واقع الساحة السياسية الوطنية بما تحمله من إيجابيات وسلبيات، ليشكل مجالا خصبا للتحليل والقراءة بالنسبة إلى الذاكرة الجماعية الوطنية لمختلف الفرقاء والتنظيمات السياسية، بما فيها تلك التي غالبا ما كانت تدعو إلى مقاطعة الاستحقاق.
واضح أن السبب الأساسي وراء النقاش الواسع للتعديل الذي قدمته 7 أحزاب مغربية على القاسم الانتخابي، يجد مرتكزاته في النتائج المتوخاة من هذا التغيير لتحقيق تمثيلية موسعة للناخبين برسم الدوائر الانتخابية الوطنية والمحلية، تجسيدا لانتخابات حرة ونزيهة، وتكريسا لمسلسل الخيار الديمقراطي وفق المعايير المتعارف عليها دوليا. فالتعددية السياسية وحدها تبقي الضامن لتجويد الهندسة الانتخابية لدولة تؤمن بالتعددية السياسية، لأن نظام الحزب الوحيد يعتبر غير مشروع، وذلك ما أكدته الدساتير المغربية المتعاقبة منذ أول دستور للمملكة سنة 1962.
إن أهمية تعديل القاسم الانتخابي تندرج في سياق فتح المجال أمام جميع القوى السياسية للمشاركة في صياغة واتخاذ القرار من خلال المؤسسة التشريعية، وباقي الهيئات التمثيلية الترابية، للانتقال من الديمقراطية التمثيلية = démocratie représentative إلى ديمقراطية الانخراط = démocratie d’adhésion، ما سيؤدي بالإضافة إلى المساهمة الواسعة في تحقيق المشاركة في القرار داخل المؤسسة التشريعية، إلى تجسيد الإجماع والتوافق في تبني القوانين بين الأغلبية والمعارضة. قد يقول البعض إن المسألة قد تؤدي إلى بلقنة المشهد السياسي، ما سيصبح معه صعبا تشكيل تحالفات حكومية قوية بعد الانتخابات، وانعكاساتها سلبا على الانسجام الحكومي. هذا الأمر يعتبر في الوضع الراهن من باب تحصيل حاصل، وبالتالي لا يمكن إثارته كسبب منطقي لانتقاد اعتماد قاسم انتخابي جديد، أو القول بأنه يؤدي إلى الإجهاز على انتظارات وتطلعات المواطنين.
والقوانين الانتخابية جزء لا يتجزأ من اللعبة السياسية المعتمدة في الأنظمة الديمقراطية للتعبير عن انتظارات وتطلعات الناخبين (جميع المواطنين) الذين لهم الحق في التصويت، في اختيار من سيمثلهم ومن سيزاول السلطة باسمهم. من هذا المنطق تختار كل دولة ما يلائم خصوصياتها، بالنظر إلى واقع وحجم التمثيلية داخل المؤسسات والمردودية المحققة في أفق الإجابة عن: هل يجب تقليص عدد الأحزاب داخل المؤسسات؟ من خلال مثلا اعتماد نظام أكبر معدل، أو وضع عتبة انتخابية تشترط فقط للحصول على نسبة معينة من الأصوات، وبالتالي توسيع دائرة التمثيل الحزبية داخل المؤسسات المنتخبة لتشمل جميع الأحزاب، بحيث جميع التيارات السياسية يجب أن يكون لها حضور يوضح وجهة نظرها، والمساهمة في جميع القضايا ذات الصلة بالشأن العام…
كما أن واقع المغرب اليوم يؤكد وجود كتلة ناخبة هامة عازفة عن الإدلاء بأصواتها في مختلف المحطات الانتخابية (الطبقة المتوسطة والنخب المثقفة)، ما يعطي صورة غير واضحة عن توجهات ومآل الرأي العام، واستحالة تقييم المشهد السياسي. أخطر من ذلك أن هذه الفئة هي التي توجه الانتقادات لأداء ومرودية عمل الحكومة والبرلمان، وأداء الهيئات الترابية المنتخبة وباقي الهيئات الدستورية… هو واقع تتبناه بقوة في كل ما تدونه وتغرد به بمواقع التواصل الاجتماعي، من خلال رفضها هيمنة تيارات سياسية تحكمت في العملية الانتخابية بواقع مجتمع مدني مزيف مؤسس على العمل الخيري، أو الخطاب الديني، أو المقاربة التضليلية، ما أصبح معه بالنتيجة والضرورة أن الأحزاب السياسية المستفيدة من نمط الاقتراع الحالي لا تهمها ظاهرة العزوف الانتخابي ما دامت هي أكبر مستفيد، مكرسة معاناة المؤسسات وطريقة اشتغالها.
وعليه فإن تغيير القاسم الانتخابي ديمقراطيا مقبول بالمملكة، والدستور إذا كان لم يحدد نمطا للاقتراع، فإنه أيضا لم يتبن أي تصور أو قواعد متصلة تحديدا بالقاسم الانتخابي اللازم أخذه بعين الاعتبار أو تجسيده علي أرض الواقع. نعم، إذا كان تصويت البرلمان على القواعد المتصلة بانتخاب أعضاء مجلس النواب، بما فيها القاسم الانتخابي، جزء لا يتجزأ من صلب اختصاص البرلمان، فإن اختصاص المحكمة الدستورية لفحصه مسألة غير قابلة للنقاش، لأنه يصدر في شكل قانون تنظيمي، والمحكمة الدستورية حينما تقوم بفحص دستورية قانون تنظيمي، فإنها تعمل على التأكد من: (وجود من عدم) مخالفات لمضمون القانون التنظيمي مع أحكام وفصول دستورية أخرى، بحثا عن انسجامه مع الدستور باعتباره قانونا صادرا عن ممثلي الأمة. وعليه، فالمحكمة الدستورية استنادا: إلى الفصل 30 من الدستور الذي ينص صراحة أنه لكل مواطن أو مواطنة الحق في التصويت، وفي الترشح للانتخابات، شرط بلوغ سن الرشد القانونية، والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية. وينص القانون على مقتضيات من شأنها تشجيع تكافؤ الفرص بين النساء والرجال في ولوج الوظائف الانتخابية. التصويت حق شخصي وواجب وطني… ستؤكده دستورية القاسم الانتخابي الجديد.
إن الاحتفاظ بالقاسم الانتخابي نفسه المعمول به سابقا، لا يمكن أن يحقق الغايات المتوخاة من العملية الانتخابية التي يجب أن تكون مرآة صادقة ومحفزة للرأي العام وتوجهاته، ووسيلة للتداول على السلطة بين جميع القوى السياسية الحية المؤمنة بنبل العمل السياسي الصادق، لاحتواء انعدام الثقة بين الناخب والمنتخبين وكذا لوضع حد للاحتجاجات الشعبية المواطنة، في ظل ضبابية العمل والمشهد السياسي، اللذين أصبحا غير قادرين على التمييز السياسي بين اليمين واليسار، وارتكاز النخب السياسية الحالية الموجودة في مواقع المسؤولية على ما هو انتخابي، ظرفي وآني وتغييب كلي للبرامج السياسية، حيث الأحزاب في قطيعة مستمرة مع الديناميكية الوطنية في غياب كلي لأي مبادرة لمعالجة القضايا الاقتصادية، السياسية والاجتماعية الآنية، فاسحة المجال لنخبة من التقنوقراط لتحل محلها في تدبير الشأن العام الوطني والمحلي، من باب ما أصبح يطلق عليه (تحصيل حاصل).
التأثير الذي سيحدثه القاسم الانتخابي على أساس المسجلين على نتائج الانتخابات المقبلة:
υ استبعاد هيمنة حزب أو حزبين على المشهد السياسي الوطني، كما كان الحال بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2011 و2016، فاعتماد القاسم الانتخابي على أساس المسجلين، يقلص حظوظ الفوز بمقعدين في الدائرة نفسها، وسيقلص الفارق في عدد المقاعد بين الأحزاب، المقعد الثاني الذي سيخسره الحزب الأول سيذهب في أغلب الحالات إلى لائحة لم تكن لها حظوظ للفوز بمقعد، لو تم اعتماد القاسم الانتخابي على أساس التصويت. وعليه مقارنة مع الانتخابات التشريعية الأخيرة مثلا، سيفقد الحزب الذي تصدر المشهد السياسي إبان الاستحقاقات التشريعية لسنة 2016، 44 مقعدا، أي أن مجموع المقاعد التي سيحصل عليها ستكون ما بين 83 و88، إذا حافظ الحزب بطبيعة الحال على كتلته الناخبة.
الأمر في نهاية المطاف، تطبيق للاختيار الديمقراطي الذي من المفروض أن يعتمد التعددية الحزبية والانتخابات الحرة والنزيهة والدورية.
ϖ زيادة عدد الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، خصوصا الأحزاب السياسية الصغرى والمتوسطة، بمعنى توسيع دائرة التمثيلية الحزبية، وإعطاء جميع التيارات السياسية الحق في المساهمة والمشاركة في بلورة السياسات العمومية، واحتواء ظاهرة العزوف السياسي والانتخابي، واسترجاع الثقة المفقودة بين الناخبين والمنتخبين، ولو نسبيا. هذه المحطة الجديدة من شأنها أن تكون ضمانة حقيقية للاستجابة لمتطلبات المواطنين وآمالهم، والتجسيد الفعلي على أرض الواقع لمؤسسات منتخبة ذات مصداقية وفعالية، بالتصويت على نخب مؤهلة تحظى بثقة وشرعية هذا النظام التمثيلي الجديد الذي من شأنه أن يؤدي بالجميع إلى تحمل مسؤولياته للعب الأدوار المنتظرة منه.
على مستوى التجارب المقارنة، لا توجد في أي دولة من دول العالم تجربة مشابهة للتعديل الذي قدمته أحزاب المعارضة والأغلبية باستثناء «البيجيدي»، هذا التعديل تم تبنيه لأسباب متصلة بخصوصية النموذجين السياسي والدستوري المغربيين، فقبول ولاية حكومية ثالثة للحزب ذاته مسألة سريالية (2011- 2026)، كما أن الثقافة الدستورية في مختلف بقاع العالم لا يمكن أن تقبل بوجود حزب يقود حكومة (غير منسجمة) على مدى 15 سنة، وفرضا في ظل الأوضاع الراهنة واحتراما لمنطوق الفصل 47 من الدستور، فإن حزب العدالة والتنمية في حال تصدره نتائج الانتخابات المقبلة سيصبح في وضعية شبه مستحيلة، وإن تبوأ المرتبة الأولى، لتشكيل الحكومة. ومن غرائب المشهد السياسي الوطني أن تقبل الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية التعديلات الجوهرية المتصلة بالنظام الانتخابي، المقترحة من طرف الوزارة الوصية، ويصادق عليها في مجلس الوزراء والحكومة، ويصوت عليها بالأغلبية في مجلس النواب (162 مع) (104 ضد)، ثم بعد ذلك يتم التصدي لها إعلاميا واتهام المؤسسة التشريعية بعدم الاستقلالية؟ بل ذهب رئيس الحكومة إلى حد التأكيد أن القوانين الانتخابية تضمنت تراجعات خطيرة، مست بجوهر الاختيار الديمقراطي.
إن مجموع التعديلات التي عرفتها المنظومة الانتخابية ببلادنا من الأهمية بمكان، استدراكا لبعض الاختلالات والنواقص التي أكدتها الممارسة وتدبير الشأن العام للهيئات المنتخبة، حيث تم التصويت على التعديلات بنعم من طرف 162 نائبا ومعارضة 104، وهي تعديلات همت أساسا القاسم الانتخابي الذي يستخرج عن طريق قسمة عدد الناخبين المقيدين في الدائرة الانتخابية المعنية على عدد المقاعد المخصصة لها، وتوسيع حالة تنافي العضوية في مجلس النواب مع رئاسة مجلس عمالة أو إقليم.
كما تم تبني تصور بديل بالنسبة إلى الدائرة الانتخابية الوطنية التي عوضت بدوائر جهوية، انطلاقا للمكانة الدستورية للجهة في التنظيم الترابي للمملكة، مع أخذ بعين الاعتبار معيارين أساسيين:
1- عدد السكان القانوني بالجهة.
2- تمثيلية الجهة اعتبارا لمكانتها الدستورية في التنظيم الترابي.
وهمت التعديلات أيضا إجراءات التخليق في مجال الحملات الانتخابية، وإضفاء الشفافية وتحقيق المنافسة المنصفة والشريفة، وضرورة إعداد حساب الحملات الانتخابية، ودعم وضعية المرأة في المشهد الانتخابي تجسيدا لمبادئ المناصفة والتمييز الإيجابي التي جاء بها دستور 2011. وهي لحظة متميزة في تاريخ المغرب الحديث لتثمين ودعم التحولات الاجتماعية الكبرى من خلال التغييرات التي تم إدخالها على المنظومة الانتخابية الوطنية من أجل تمثيلية أوسع للشباب والمرأة باعتبارها مدخلا أساسيا لكل تنمية سياسية، اقتصادية واجتماعية شاملة، وكذا لاحتواء ظاهرة تخاذل الفاعلين السياسيين بعد 10 سنوات من التطبيق النسبي لدستور 2011، في أفق تجسيد أمثل، لذا يعتبر إصلاح منظومة الانتخابات (سيما اعتماد قاسم انتخابي جديد) بداية البدايات.