شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الفيلسوف النمساوي فيتغنشتاين

ليس هناك من رجل اختلف حوله الناس مثل الفيلسوف النمساوي فيتغنشتاين. وبقدر ما كان عبقريا في تأسيس فلسفة جديدة، بقدر هدمه للفلسفة نفسها التي بدأها. من خلال عملين، الأول ظهر في رسالته التي أخرجها وهو في المعتقل تحت عنوان «رسالة منطقية فلسفية»، وختم حياته بنقد ذاتي قاسي تراجع فيه عن الفلسفة الوضعية المنطقية التي أسسها بعنوان «بحوث فلسفية»، وكتابين مشتقين من لونين (الأزرق) و(البني). ولا أعرف حقيقة سبب التسمية.

وعاش الرجل 62 سنة ومات بالسرطان بعد أن تفرغ للبحث عام 1947م، على أمل أن يصقل نظريته الجديدة ويهدم ما بدأ به حياته من أفكار، ولكن السرطان قضى عليه عام 1951م. ولم ينتج في حياته إلا هذا الكتاب اليتيم، ولكن أعماله النقدية الأخرى ظهرت بعد وفاته، وهو ينقض نفسه بنفسه، وهو ما يذكر بقول نيتشه: «أصل نفس الإنسان حرب لا هوادة فيها، ولا تهتم بالخسائر والأرباح، فهذا من شأن الحقيقة لا من شأنك أنت. وإذا أردت الراحة فاعتقد، وإن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل». والفرق بين الفلسفة والعلم والدين أن الدين مريح بأجوبته القاطعة والنهائية، والعلم يجيب عن كيف؟ والفلسفة مزعجة، لأنها كما تعلمنا من سقراط أنها تكشف أننا لا نعرف دوما، وأن الإجابة على كل سؤال تفتح الطريق لسؤالين جديدين.

وقد يتقاطع كل من الدين والعلم والفلسفة عند نقطة، ولكن مثل تقاطع المستقيمات في الرياضيات، فلكل محور عمله. وما بقي للتداول هو كتابه الأول الذي صدر في المعتقل الإيطالي عام 1919م، وعمره 30 سنة. وتشبه تجربته من جانب تجربة أبي حامد الغزالي، حيث مسح الفكر المعاصر لينتهي في أرض التصوف.

وفي كتابه «رسالة منطقية فلسفية» تناول نظرية المعرفة ومبادئ الفيزياء ومشكلات علم الأخلاق، ليروي تجربته الصوفية وهو في ساحات القتال على الجبهة النمساوية الإيطالية. حيث اشترك كجندي في المدفعية، ثم وقع في الأسر في جبهة التيرول عام 1918م، حتى خشي الفيلسوف البريطاني برتراند راسل المعجب فيه أنه قد مات.

وعمل الرجلان فترة سوية، ولكن البحث الذي ظهر إلى النور والذي نشر في حوليات الفلسفة هز الأوساط الفلسفية وما زال حتى اليوم، على الرغم من نبذ صاحبه الفلسفة وراء ظهره. فمن يريد أن يتابع الفيلسوف عليه أن يطلق الفلسفة، لأنها تضعنا أمام الأشياء، وعلينا أن نعود إلى اللغة البسيطة لفهم الأشياء عند استعمالها وليس بما نضيف عليها من معان.

ويعتبر فيتغنشتاين إنسانا عمليا عمل في عشرات الوظائف والمهن، بين هندسة الطيران وعلم الرياضيات والعمل الجامعي والفلسفة وجندي محارب وأسير في المعتقل ومدرس صارم وبستاني في دير ومهندس معماري وممرض وباحث في المعمل. ولم يكن يهمه أن يترك منصب أستاذ الجامعة ليشتغل بوابا، أو ممرضا في مشفى.

ومن وجهة نظره فإن القضية المحورية ومشكلة المشاكل هي علاقة اللغة بالعالم، واستخدم لها مثل طنين الذبابة في الزجاجة، أي تلك التي تخرج الذبابة من حيرتها عبر عنق الزجاجة إلى الفضاء الفسيح. واعتبر الفيلسوف مور أن رسالته كانت ومضة من العبقرية.

أما راسل فاعتبر عمله مغامرة عقلية كبرى مدعاة للإثارة، ولكنه للقارئ العادي مجموعة من الألغاز فقد كتب بطريقة مكثفة جدا. وتأثر فتغنشتاين جدا بآراء تولستوي، فقام بتوزيع ثروته الطائلة التي ورثها على أصدقائه وأقربائه، وارتاح من عناء الثروة فهي في نظره عبء على الفيلسوف، وأن من يعمل بالفكر عليه أن يتخفف من هموم الدنيا. وهي وصية صعبة جدا.

وعندما جاء غني إلى المسيح فسأله النصيحة، قال: تخلص من مالك واتبعني. فانصرف الرجل وفي عينيه الحزن، فالتفت المسيح إلى الحواريين وقال: الحق أقول لكم إن دخول غني إلى ملكوت السماوات أصعب من دخول حبل السفينة في ثقب الإبرة. وفي وقت سافر فيتغنشتاين إلى روسيا، فحاولوا إقناعه بالبقاء هناك فرفض، ثم ذهب إلى النرويج فبنى كوخا بنفسه، وبقي فيه لمدة عام في التأمل.

وأعظم ما في فلسفة فيتغنشتاين تفكيكه لعمل اللغة، وأن اللغة في أحسن أحوالها تصور الواقع، ولكن ليس من واقعة مرتبطة بأخرى بأي وسيلة من الوسائل. وهذا يعني أن اللغة وهم ولعل أفضل ما فيها أنها قناة تواصل، ولكن من خلال الاستعمال. والكلمة لا تحمل المعنى ونحن من يشحنها بالمعنى.

وأفضل مبدأ هو (التحقق) من الكلمات، وهو ببساطة الرجوع إلى الواقع. وظن أنه حل كل المشاكل الفلسفية، وأراد بناء لغة من الدقة أن تضع كل شيء في نصابه تماما، فاللغة لا تزيد على لعبة. ومنه اعتبر الرجل مؤسسا للفلسفة الوضعية المنطقية.

 

خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى