شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الفيلسوف إيمانويل كانط

احتفلت ألمانيا بمرور مائتي عام على وفاة فيلسوف النقد والتنوير كانط، وأجمل ما ترك خلفه هذه العبارة: شيئان يملآن قلبي دوما بالإعجاب المتزايد والخشوع، وهو شعور لا يفارقني كلما أطلت التفكير: «السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في داخلي. إنني أراهما أمامي مباشرة، وهما يثيران فِيَّ المرة بعد المرة الوعي بوجودي».

اشتهر الفيلسوف بهذه الفقرة وكتبت على نصبه في مدينته «كونيغسبرغ Koenigsberg»، التي ولد فيها وعاش ومات ولم يتزوج، ونقد العقل والكنيسة والفكر الديني، بل كل الفكر الفلسفي. وهذه الفقرة جاءت في الفلسفة الأخلاقية، في الفصل الأخير من كتابه «نقد العقل العملي Kritik der praktischenVernunft »، فهو يرى الحاجة إلى الإيمان والأخلاق ولو لم يكن في المقدور البرهنة عليهما تجريبيا أو عقليا؛ فكما كان في السماء قانون أعلى، وجب أن يكون في النفوس قانون يضاهيه سموا ورفعة. وهذا مغزى البحث الذي كرسه عن الميتافيزيقا، بأنه يجب أن تضاهي الفيزياء في الدقة والوثوق حول الأخلاق والإرادة والسلام.

وحسب «محمد كامل حسين»، في كتابه «وحدة المعرفة»: «في الكون نظام وفي العقل نظام، والنظامان من معدن واحد. والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه. ولو لم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة، ولو لم تكن المطابقة ممكنة ما علم أحد شيئا. وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضا يحتاج إلى البرهنة، بل هو جوهر إمكان المعرفة. ومن أنكره فقد أنكر المعرفة».

وحسب «الغزالي»، في كتابه «المستصفى في أصول الفقه» عن مراتب الوجود، أن العلم هو الانعكاس الموضوعي للعالم الخارجي على الذهن في أربع مراتب من (1) الرؤية إلى (2) الإدراك إلى (3) النطق بها (4) فكتابتها. والكتابة هي أضعف أشكال العلم قاطبة، مع أنها وسيلة التواصل ووعاء الحفظ. وهي النتيجة نفسها التي خلص إليها علم البرمجة العصبية اللغوية (NLP=Neuro-languisticProgramming).

 وعند هذه النقطة فهم «كانط» المقولات الضرورية (CategoricalImperative) المغروسة في عقولنا، قبل تحصيل أي معرفة وعلى قاعدتها نُحَصلُ المفاهيم. 

وحسب «سبينوزا»، الفيلسوف الهولندي، في كتابه «الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي»، فإنه يمكن البرهنة على الأخلاق مثل (النقط الرياضية والسطوح والأشكال).

وهذه الخلاصة وصل إليها الفيلسوف «كانط» في مشروعه (للنقد والتنوير)، فنقد كل شيء بما فيه (العقل الذي ينقد) و(ملكة النقد) و(النقد الديني من منظور عقلي)، وهو الذي جعل القيصر الألماني يحرم عليه التكلم في قضية الدين مطلقا، وكان ذلك عقب ترحيبه بالثورة الفرنسية عام 1789م، والتي قال عنها حينما نقلت له صور الرعب والرؤوس المتطايرة على المقصلة: «إن كل هذه الفظاعات لا تقترب بشيء من استمرار الطغيان». ويمكن أن نفهم ذلك إذا عرفنا أن الكنيسة والنبلاء كانوا يملكون أكثر من نصف الأراضي الزراعية في فرنسا. بكلمة مختصرة افتتح كانط عصر (النقد).

ومشروع النقد المزعج عند «كانط» ولد بعد عمل دؤوب، منذ أن أصبح أستاذا للفلسفة في جامعة (ألبرتوس Albertus- University)، في مدينته التي لم يفارقها قط. وقام بتطويق الأسئلة الكبرى التي شغلته منذ الصبا: من أين يأتينا اليقين في معارفنا؟ ألا يوجد نظام في النفس كما كان في السماء نظام؟ بحيث إن خرق هذا النظام لا يدع مجالا للمتشددين الدوغمائيين أي حظ في التأثير على الرأي العام وخطفه. وأخيرا أين يمكن العثور على نقاط ثابتة في الطبيعة؟

 وعلى الرغم من طبيعة التعقيد في كتابة «كانط» كما وصفها المؤرخ «ويل ديورانت»، فقال علينا أن نخالف القاعدة المعروفة، فنقرأ عمن كتب عنه قبل أن نقرأ ما كتبه هو بالذات.       

فبعد أن «أجهز «بركلي» على المادة وقضى عليها ومحاها من صفة الوجود، جاء «هيوم» فسارع بتدمير العقل والدين. ولم يقنع بذلك، بل اقترح أيضا تدمير العلم بحل فكرة القانون. وانهار العقل كما انهارت المادة، ولم يبق منهما شيء».

 ويقول المؤرخ «ديورانت» في كتابه «قصة الفلسفة ص 322» إن «الفلسفة وجدت نفسها وسط أنقاض خربة قوضتها بنفسها»، فجاء «كانط» وقرأ في عام 1775م الترجمة الألمانية لكتب «ديفيد هيوم»، فروعته هذه النتائج، وأيقظته من نعاسه العقائدي كما ذكر، وشرع في تأسيس فلسفة جديدة ينقد فيها الأخلاق والعقل، فكان مشروعه العقلي النقدي الذي شكل تيارا ضخما هادرا تضرب أمواجه حتى اللحظة.

ويقول «ديورانت» إن كل «الفلسفات لم تكن سوى تطور سطحي يتدفق تحته تيار «كانط» الفلسفي القوي الثابت على نحو أشد عمقا واتساعا. وما زالت فلسفة كانط حتى يومنا هذا قاعدة لكل فلسفة». ويعلق «ريشارد أوزبورن» في كتابه «الفلسفة للمبتدئين»، أن كانط لو لم يكن موجودا، لخلق الله كانطا آخر.

 خالص جلبي 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى