شوف تشوف

الرأي

الفيلسوف إبراهيم البليهي (3- 3)

بقلم: خالص جلبي

كان البليهي صاحب الفضل في نفض مواهبي وتسخيرها للصحافة بالمملكة، فأنا أعترف له بذلك. وهو يذكرني بعمل ابن طفيل، الفيلسوف، مع ابن رشد حين قدمه إلى الملك الموحدي؛ فكانت فاتحة تعميم أفكاره قبل المحنة الكبرى وموت ابن رشد كسيفا منفيا في قرية يهودية، إمعانا في إذلاله. ودفن فكر النهضة مع طيات وظلمات التعصب والجهل، فانبجست ينابيعه لاحقا في بادوا بإيطاليا، ودفنت قرطبة الإسلامية وإلى الأبد، عقابا لأهل المدينة الذين عاقبوا ابن رشد.
البليهي قارئ نهم، يعرف الكتاب ومؤلفه وسيرته ودار نشره وتاريخه وعدد الطبعات وأنواع الترجمات، وأفضلها من أسوأها.
إنه تاجر ألماس وذهب الكتاب وويل للمطففين.

لا مجاملة على حساب الحقيقة
دخل عليه أحدهم يوما كأنه يريد خطبة ابنة البليهي لابنه، وعائلة البليهي من كرام عائلات القصيم، فنظر الثري في المكتبة، ثم ضرب كفا على كف وقال: يا حسرتاه عليك ماذا فعلت بنفسك؟
لم يجامله البليهي مع أنه جاء في مشروع خطبة.
والبليهي لا يجامل ولا يجرح، بل هو في غاية التهذيب والإكرام، ولكن ليس على حساب الحقيقة!
قال البليهي لهذا الثري المتخم بالمال: بل أنا حزين عليك.
وهو ما يذكرني بقول نوح لقومه: «إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم».
إن البليهي منظم لأبعد الحدود في مكتبته، لا يضعها حسب الحجوم والمقاييس كما أفعل أنا، بل يفعل ما هو أفضل، مثل تنظيم المكتبات التي تحرص على عرض وبيع كتبها، كل كتاب في زاويته المخصصة، فأهل التاريخ مع جماعتهم، والفلسفة في حزبهم، والجغرافيا في زاويتهم، فإذا جلست في مكتبة البليهي والفلاسفة يحدقون بك من كل جانب، شعرت أن نسمة عليلة من أرواحهم تهب عليك، فتنقل الأرواح إلى بلاد الأفراح.
والجلسة مع البليهي يجب أن يتبع المرء فيها تكتيكا محفزا كي ينطلق البليهي في الحديث، لأنه من النوع المقل في الحديث، ومن كثر كلامه كثر غلطه.
أو هو عند الفلاسفة بحر يتدفق وموج يتلاطم في نسمات منعشة والبليهي منهم.
ومن أجمل ما فيها تصيده للأفكار وتطويرها ولو بيد غيره، كما هو الحال في نهمه للمعرفة أيا كان مصدرها.

توليد مقالة «موت الأمم»
كنا يوما نتبادل الحديث فتطرقت إلى فكرة موت الأمم، فأنصت بخشوع وقد انقدحت عيناه بنور إلهي، وقال: أرجوك اكتب هذه المقالة ووسعها، وكانت جلسة مباركة تلك الليلة، لأن الملائكة حفتنا وذكرنا الله فيمن عنده، وتولدت عندي مقالة ـ وبفضله ـ من أجمل ما كتبت وما زلت أطورها عن موت الأمم، كون الآية القرآنية تتحدث أحيانا عن موت الأفراد مثل «وجاءت سكرة الموت بالحق»، أو من مثل «وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون»، فالحديث هنا عن الموت الفردي.
ولكن من الغريب أن هناك آيات تتحدث عن موت الأمم «لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون».
فلما بدأت في شرحها ذهل البليهي، ودفعني دفعا إلى إنتاجها؛ فالمقالة يعود فضل إنتاجها إلى تشجيعه وليست الوحيدة، فهو من شحنني أيضا بالروح السلامية، ذلك أن اللاعنف هو الصورة المقابلة لولادة العقل الاستدلالي.
وأنا أستشيره حتى في قضاياي الشخصية، فلا يضن ولا يبخل، فهو نعم الصديق الوفي.

البليهي فلتة وطفرة في عالم الفكر
يعتبر البليهي فلتة وطفرة في عالم الفكر والصحافة والكتابة، فهو شق الطريق إلى مفاهيم مقلقة مزعجة، ولكنها مثيرة محرضة. مثل تأسيس علم الجهل وبنية التخلف، ولكن عنده من المقالات المحلقة الكثير مثل وباء العنف، وكان سباقا لما يحدث في المنطقة، ومنها مقالته في «عبقرية الاهتمام»، أو مقالته الساحرة حول «هالة الغياب وسحر الغموض».
وقد دفعني تجاهل هذه القاعدة إلى خسارة أقرب الناس إلي، فالأمر كما نرى جد وليس بالهزل.
ومن الصفات النفسية الرائعة التي تدل على عمق إيمانه تعامله مع الموت، فقد زلزلت مرتين، الأولى مع موت صديقي أبو طه، والثانية مع أحب الناس إلي رفيقة عمري، ليلى سعيد، وأنا أمسك برأسي فلا أصدق.
كان يقول لي دوما وبلهجة حريصة وصارمة: إنها حقيقة حقيقية كونية أننا رحالة في هذا العالم المتفاني، فلنستقبل الموت بشجاعة، فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون.
ومن قصص زهد الرجل وعفافه قصص لا تنتهي، وكلها آية في نظافة هذا الرجل وزهده وتقواه وورعه.
وهو غير حريص على استعراض عضلاته الأخلاقية، بطرا ورئاء الناس، بل يطمع أن يحفظها صدقة مخفية علها تنفع يوم الحساب.
فأين عيون الناس المتلمظة للمناصب والمال؟
إنها قصص البليهي تذكر بالجيل الصالح من الحواريين والصديقين.
أما الرجل في منصبه كرئيس عام بلديات القصيم، حيث الأراضي والثراء، فقد ابتنى الرجل لنفسه بيتا، بناه له ابن عمه دينا بالتقسيط، وليس في قدرته أن يشتري سيارة لابنه.
وفي عمله حول القصيم الصحراوية إلى جنات بهجة للناظرين، وكان يفكر في تحويل المملكة إلى غابة مدهامة، ولكنه حورب في شجره جهلا وضلالا، فقطع الكثير الكثير.
إنه زاهد في الدنيا متصوف بدون صوف وصوفية ومشيخة، بل جمع بين الفلسفة والتصوف، وفي تقديري هي أعظم وصفة خلاص للإنسان في هذه الدنيا، فيمسك التبر في يده وكأنه تراب.
ويبقى السؤال المهم في النهاية، كيف أمكن له أن ينعتق من بيئة مغلقة إلى عالم الفكر الرحيب؟
وجوابي هو من علم الفضاء، فحتى تنطلق المركبة الفضائية يجب أن يكون اختراقها للحاجز السماوي بطاقة غير عادية، وبسرعة غير عادية، فإذا تحررت من جاذبية الأرض رأت الملكوت، وسبحت بيسر في الطبقة العلوية، وكذلك البليهي فقد كان عليه أن ينخلع وينعتق من البيئة الجاذبة بأشد من قانون نيوتن للحجارة الثقيلة، وبطاقة غير عادية.
والبليهي بتوديعه البيئة، تحول كائنا آخر، ومن ترابه شادت الثقافة كونا آخر.
كما حصل معي أنا في القامشلي، حيث ترعرعت؛ فكان أقاربي يأتون إلي ويقولون: حذار من القراءة والاطلاع، فهما يضربانك بمس من الجنون.
لقد سمعنا عن أناس انشغلوا بالكتاب ففقدوا عقولهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى