بقلم: خالص جلبي
كنت في زيارة إلى أخ كريم برتبة عالية في مقام كريم، ولمعرفتي بنبوغه العقلي واهتمامه بالثقافة؛ فأستفيد من هؤلاء الأفاضل في تحريك مواضيع خارج الروتين.
سألني: لماذا لا تنشر الدوائر الرسمية حقيقة الإصابات بالإيدز وتتكتم عليها؟ هذا الكلام قديم وهو من دولة خليجية. قلت له: في ما سبق كانت أرقام إصابات الحوادث مثل الأسرار الحربية؟! والآن إذا خرج أحدنا من مطار الرياض، قرأت في لوحة هائلة عدد الإصابات في 28 سنة 67 ألف إصابة، بما يذكر بحرب أهلية. والإيدز ليس بشيء أمام فيروس الإيبولا، فضلا عن كورونا. هز برأسه وتساءل أكثر عن الفيروسات بشكل عام. وأن يسأل ضابط عن أدق المعلومات في المخابر، فهو نبوغ مميز وثقافة رائعة، لأن مثل هذه المعلومات يتجه إليها في العادة الأكاديميون! قلت له: لقد كتبت بحثا موسعا عن عصر الفيروسات القاتل، وإن خطر الأسلحة البيولوجية أفظع وأدهى وأمر من النووية. وهكذا سار بنا الحديث في معارج رائعة من الثقافة. وحول فيروس الإيبولا الذي ضرب مرة واختفى فقصته مذهلة؛ ففي صيف عام 1976 م أرسل طبيب من جنوب السودان (مدينة الناصر) إلى معهد الأمراض الاستوائية في هامبورغ، يروي واقعة مفادها انتشار حالات غريبة من الحمى المجنونة المترافقة بالغيبوبة والنزف، وأكد الطبيب في تقريره أن الحالات هي قطعا (حالات متقدمة) من التيفويد، مع هذا تبقى الحالات (ظريفة) للاطلاع، والأطباء لهم (صرعتهم!) فهم يصفون الحالات المرعبة بأنها ظريفة، والأورام المتقدمة بأنها مثيرة، والحالات المستعصية بالجميلة، والعمليات المختلطة بأنها تدعو إلى حك اليدين للعمل الجراحي! يقول الدكتور «كنوب لوخ KNOBLOCH» إن التقرير أثاره وقام بزيارة مستشفى (المريدي) في المنطقة، ولكن ما رآه كان مفزعا مروعا من بشر يتساقطون إلى الموت كالذباب، في ظروف ألم ومعاناة مخيفة، من مرضى يتقيؤون كل شيء حتى أحشاءهم، وتتسلخ أغشيتهم المخاطية تحت آلام لا تطاق، أما اللسان وقبة الحنك فكانت تتساقط متفتتةً. كان المرض ينخر فيهم بالكامل من الدماغ حتى الأعضاء التناسلية… كانوا ينزفون من كل مكان، من الأنف والفم والعين والجلد، وكان رشح الدم ينصب في كل الأجواف الداخلية من تامور وجنب وبيريتوان (أكياس القلب والرئة والأمعاء بالتتالي).. لقد أدركت على الفور أنني أمام تظاهرة مرضية جديدة تماما، علينا أن نتحرى المسبب الإمراضي فيها. وبفحص (الخزعة) المأخوذة من كبد الأموات، بعد تشريح الجثث (مات 124 فردا من أصل 200 إصابة)، تم رؤية فيروس الرعب الجديد هذا. كان (فيروسا) يلتوي على نفسه في أعداد لا تنتهي، مثل الديدان أو العرى المعوية أو الأفاعي، باطنه شحنة من الأحماض النووية، تبلغ ضعف ما هي عليه في فيروس الإيدز سيئ الذكر، الذي لم يطوق حتى الآن بعلاج أو لقاح، ومعطفه الخارجي طبقة شحم، وتبرز من أطرافه نتوءات تشبه أقدام الزاحفة (مثل أم أربع وأربعين) وليست حشرة، بل هو فيروس مكبر مائة ألف مرة. وما عرف عنه أن فيروس الإيدز أمامه رحمة، أما فيروس الإيدز يمشي كلصوص الليل المتسللين، ولا يعلن عن هويته مثل المنافقين، ويضرب ضربته في الظهر بعد حين مثل كل الغادرين. أما فيروس (الإيبولا) الذي أخذ اسمه من نهر في الزايير، حيث زمجر المرض وكشر عن أنيابه مثل الغوريلات، فهو يضرب بسرعة ووضوح وبمنتهى القسوة وبشكل دموي؛ وحضانته لا تحتاج كما في الإيدز إلى سنوات، بل هي بين 2- 21 يوما.. سألني الضابط: ما هي الحضانة؟ قلت: الوقت بين دخول الفيروس البدن وانفجار مظاهره، وهي تتفاوت من فيروس لآخر، ففيروس التهاب الكبد مائة يوم، والحصبة أيام.
وإذا بدأت مظاهر الحمى والألم؛ فيبقى دور الطبيب دور الشاهد، الذي يرى فصول الموت الأخيرة لا أكثر، وكما انتشر فيروس (الإيدز) سابقا بواسطة الدم وأخلاط البدن والعلاقة الجنسية المشبوهة؛ فإن فيروس (الإيبولا) يعيد السيرة السابقة نفسها. فيروس الإيدز يستخدم استراتيجية التغيير في التركيب الكيمياوي الحيوي، حيث يقتحم تركيب الحامض النووي فيصبح قطعة منه، أما استراتيجية فيروس الإيبولا فهي أدهى وأمر، حيث يعمد إلى العنف في التركيب الجزيئي، بمعنى أنه يعرف لغة واحدة فقط هي: التكاثر والتكاثر والتكاثر… فيروس الإيدز يسطو على أنواع من الكريات البيضاء في الجهاز المناعي، أما هذا فيستخدم أي خلية مطية لهدفه المدمر، فباعه في الحيل أوسع وأمكر. إنه يتودد إلى دوريات الحراسة من الخلايا المهتمة بتصيد الأجسام الغريبة (المعروفة بالبالعات MACROPHAGES) فتنخدع به فيمتطيها، فإذا أصبح في داخلها ضرب ضربته فنسفَ البناء من داخله، فتسربَ إلى كل الأجهزة النبيلة والأعضاء الحساسة، وبذلك تحترق خلايا الكبد، وتدمر مصافي تكرير بترول الجسم (الكليتان) وينعطب الطحال، ويُنسف الكظر (الغدة ما فوق الكلية التي يفرز منها ثلاثة أنواع من هورمونات البدن الحيوية)، وتتدمر الطبقة الباطنة للأوعية الدموية فينهار جهاز لزوجة الدم بالكامل، فحيث يسبح الدم بنعومة بين التميع والتخثر، وينساب كأنه اللحن العذب، يضخ الحياة في طرقات مملكة البدن، التي تبلغ مائة ألف كيلومتر(طول امتداد الأوعية الدموية!)، يحدث الانقسام والنزاع في هذه المملكة اللطيفة، فيتحول كل قسم من الدم إلى حزب، جزء متطرف يتكتل على نفسه فيكون الخثرات مثل القطران الأسود، وجزء كسل رخو مهمل يفقد كل قابلية للتماسك، فيتسرب الدم من كل مكان شيعا وأحزابا وكل حزب بما لديهم فرحون.
هذه الظاهرة هي التي يخشاها كل الأطباء، ويرجفوا منها، ويرمز لها بحروف مخيفة (DIC)، أي انحلال الدم الشامل، فهذا ما يفعله فيروس الإيبولا الدراكولا.
نافذة:
فيروس الإيدز يستخدم استراتيجية التغيير في التركيب الكيمياوي الحيوي حيث يقتحم تركيب الحامض النووي فيصبح قطعة منه أما استراتيجية فيروس الإيبولا فهي أدهى وأمر حيث يعمد إلى العنف في التركيب الجزيئي