خالد فتحي
لم يمضغ غوتيريس كلماته، وهو ينذر العالم في خطابه الأخير بفوضى عارمة ستضربه. فللرجل من الأسباب ما يبرر نبرته المتشائمة: تحدث طويلا للدول عن الغضب، والكراهية، والضجيج الذي يملأ الأرض، وعن الحروب التي لا تنفك تندلع في بقاع عديدة منها، وعن تفنن التكنولوجيا في اختراع ما سنتقن به أكثر قتل بعضنا البعض.
ليست الفوضى ما أزعج الأمين العام للأمم المتحدة، فهي قدر البشرية الذي لم تفر منه طيلة تاريخها، بل الانقسامات غير المسبوقة التي تشل مجلس الأمن، والتي ستجعله عاجزا عن التحكم في اضطرابات العالم، مما سيعجل بيوم القيامة، ويدمر الكوكب برمته.. أليس السرطان لا يغتال الجسد، إلا حين تدخل خلاياه في فوضى يعجز عن تدبيرها؟
في وقتنا الحالي، تهجنت الحروب وتعددت، صارت في الآن نفسه عسكرية، وحضارية، واقتصادية، وسيبرانية، ونفسية، وقيمية، وحتى كلامية ورياضية.
ثم هي الآن حروب بين الدول، وداخلها، وضحاياها مدنيون، وأطفال، ونساء، وأدهى من كل هذا شن البشرية حربا على نفسها بما تكسبه من علم وتكنولوجيا، فالطبيعة لم تنج بدورها من شراسة البشر، الذين دمروا منظوماتها البيئية، وخرقوا المركب الذي يعيشون فوقه، مفرغين حتى حروبه البينية من أي مكسب أو معنى، ما داموا قد صاروا مهددين جميعا منتصرين أو منهزمين بالفناء.
زد على ذلك، هذه المشاكل والحروب الجديدة التي يرميها بوجهنا هذا الإخفاق في تأطير الذكاء الاصطناعي المنذر بالويل والثبور وعظيم المصائب.
لقد تحسر غوتيريس، وهو يرثي مستقبل العالم، على الغياب الفظيع للميكانيزمات التي دبرت صراع الدول العظمى أثناء الحرب الباردة، مكررا لوعة بوتين حين قال ذات يوم إن انهيار الاتحاد السوفياتي كان عبارة عن كارثة.
لقد كاد يقول إن العالم يعاني الآن من التفتت المفرط للقوة، فمن القطبية الثنائية، انتقل أولا إلى قطبية أحادية: انهار جدار برلين، وصارت أمريكا القوة العظمى، لكنها بعد ذلك لم تنجح في أن تكون الدركي الأوحد للعالم ولم تنه التاريخ، لنتحول إلى عالم متعدد الأقطاب، أو بالأحرى لا قطبي، وهنا مكمن الخطر: إذ تتزايد التهديدات دون قوى قادرة على أن تتوافق على قواعد لفرض النظام. فالمشهد الدولي يضطرب ولم يلد بعد نظامه الجديد.. تاركا البشرية لمصيرها القاتم، وأوكرانيا وغزة أبلغ مثالين على ذلك .
يصف غرامسكي مثل هذه الحالة بمقولة شهيرة: «العالم القديم مات، بينما تتأخر ولادة العالم الجديد، وفي مثل هذه الأزمنة الرمادية تنبعث الأهوال». حقا نحن نمر بمرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر، لا نعرف أين نسير.. ما نحسه هو أننا نواجه سيناريوهات شتى: إليكم مثلا هذا السيناريو الأكثر بداهة: لسوف يضغط ازدياد سكان العالم على الموارد الطبيعية من غذاء، وماء وطاقة، فتتلف البيئة أكثر، وتتعمق الفوارق بين الأغنياء والفقراء، مما سيؤدي إلى عواقب اجتماعية، وبعدها إلى عواقب سياسية وأمنية ووجودية.
هذا أرحم سيناريو ممكن، لأنه لا قبل لذكائنا بتخيل المجهول بحذافيره، لا يمكن ضبط كل المتغيرات. هل ستستطيع البشرية يا ترى أن تواجه التحديات القادمة؟ وتتغلب عليها في الوقت الميت؟ أم أنها ستسير نحو حتفها مفتوحة العينين، مكبلة الإرادة، عظيمة الخيال، قليلة الحيلة؟
ما بحوزتنا في هذه المواجهة الآن هو مجرد سيناريوهات تتراوح من النقيض إلى النقيض، هل تتوقف العولمة مثلا؟ أم تأخذ شكلا آخر؟ هل تتحارب أمريكا والصين، أم ستتفقان؟ هل ستختفي الدول؟ وهل ستنصب حكومة عالمية؟ هل يتخلص العالم من الرأسمالية المتوحشة، أم ينسحق أكثر بين أنيابها؟ هل يكتشف الإنسان كواكب أخرى يسافر إليها، لأجل العيش فيها؟ هل.. وهل وهل؟
هناك سيولة لامتناهية في السيناريوهات الممكنة، والسنوات الحالية حاسمة جدا في تحديد المنحى الذي سيأخذه مصير البشرية، ومع ذلك أظن أن العالم قد دخل منزلقا خطيرا لا يتحكم للأسف في منعرجاته. وإني إذ أتفهم توجسات الأمين العام الأممي الذي يشتكي هذه السيولة في المشهد الدولي، لا أستبين لماذا لا ينتبه إلى أن الأمم المتحدة هي عراب السيولة عالميا في الاقتصاد، وفي القيم، وفي الحياة الاجتماعية للشعوب، وحتى في فطرة الإنسان. غوتيريس حذر، وبين أوجاع العالم، لكن شجاعته لم تذهب به إلى مساءلة نموذج الحياة الذي تروج له الأمم المتحدة نفسها، فالعالم أصبح أسير مفاهيم نحتتها له هذه المنظمة التي تركته ألعوبة في يد النظام الرأسمالي المتوحش، أي ألعوبة في يد الغرب الذي تمخض في النهاية قاتلا بالتسلسل، قتل الإله، ثم الإنسان، وها هو يقتل الأرض، التي اتخذت زخرفها، وتزينت، لتزف غالبا إلى نهايتها المكتوبة.
نافذة:
المشهد الدولي يضطرب ولم يلد بعد نظامه الجديد.. تاركا البشرية لمصيرها القاتم وأوكرانيا وغزة أبلغ مثالين على ذلك