الفن هو التعبير الإنساني عن السعادة والتعاسة معا، عن الفرح والحزن أيضا، إنه لغة من لا لغة له، فالفنون، وفى مقدمتها الموسيقى، هي المعزوفة الحقيقية للحياة ولا يمكن تصور البشرية بدون الفن بأشكاله وأنواعه، بدءا من الفنون التشكيلية على جدران المعابد وحوائط المقابر، وصولا إلى صور عصر النهضة الأوروبي بكل ما حمله إلينا من تراث فني رفيع، خصوصا في مجال التصوير بالرسم كنقطة انطلاق واكبتها طفرات الموسيقى عندما سطعت أسماء مثل موزارت وفاغنر وبتهوفن، وغيرهم من أساطين الموسيقى الكلاسيكية الغربية، حتى قيل إن أدولف هتلر كان لا يشتعل حماسة ويتخذ قرارا كبيرا إلا بعد سماعه لمعزوفة موسيقية لفاغنر، ولماذا نذهب بعيدا، فالأصوات البدائية التي تحاكى أصوات الحيوانات في الغابة كانت هي الإلهام الأول للإنسان البدائي لكى يوظف قدراته الجديدة بتعبير مستمد من أصوات الحيوان حتى أصبحت الموسيقى هي مصدر الإلهام وحافزة الخيال، منذ أن بدأ الإنسان الأول يحاكي صيحات الغابة في فترة مبكرة من تاريخ الإنسان، قبل أن يستأنس بعض الحيوانات، أو ينصرف عن الصيد إلى الرعي، ويجب أن نسجل هنا ثلاث ملاحظات:
الأولى: إن موسيقى الشعوب تعبر عن شخصيتها وهوية من ينتمون إليها، فحتى السلام الملكي أو الجمهوري كلاهما تعبير عن شخصية الدولة وترجمة لروحها التي لا تغيب عن أهلها وتبقى مصدر فخر واعتزاز لهم في كل الأزمنة، والذين يستمعون إلى الأنغام التركية أو الفارسية، بعد الاستماع إلى موشحات عربية أو حتى أندلسية سوف يكتشفون أنها تصدر عن ثقافات متجاورة وحضارات متقاربة، إن الموسيقى بحق هي التعبير الحقيقي عن وجدان الأمم ومشاعر الشعوب.
الثانية: إن الطرب العربي جاء على أنقاض حضارات قامت ثم انهارت بفعل عامل الزمن، فإذا كانت الموصل في شمال العراق، وحلب في شمال سوريا هما مصدر الطرب العربي الأصيل والموسيقى التي كانت دوما دافعا للرقى والسمو، فإننا نشير أيضا إلى الموسيقى المصرية القديمة والأنغام الفرعونية، ويكفى أن نتأمل صور الأدوات الموسيقية على جدران المعابد القديمة ونقوش التماثيل منذ آلاف السنين، حتى إننا نسمع الآن عن محاولة إحياء الموسيقى الفرعونية، ولقد شهدت شخصيا تجارب مخلصة في هذا المجال، وأتذكر أن صديقي الموسيقار الراحل محمد نوح كان معنيا بإحياء تراث الأغنية الفرعونية، حتى لو جلب ذلك عليه انتقادات حمقاء لا مبرر لها، فالفنون تتزاوج ومراحلها تتداخل، وهى أداة للتواصل وليست مبررا للتقسيم والفُرقة مهما كانت الظروف.
الثالثة: إن الفن قاسم مشترك، سواء أكان تعبيريا أو تأثيريا أو إيقاعيا، وهو يعبر عن نبض الوجود وانفعالات الحياة في كل أدوارها ومراحل نضوجها، لذلك أضحت الفنون شديدة الالتصاق بالحياة اليومية ومفردات التواصل الثقافي والاجتماعي، خصوصا في ظل التكنولوجيا الحديثة.
إن ما أريد أن أشير إليه اليوم هو أن كل محاولات الاتفاق على لغة عالمية واحدة تلتقى في النهاية إلى توافق كامل قد باءت بالفشل، فهناك من ظن أن اللغة الإنجليزية هي لغة العصر باعتبارها لغة العلوم البحتة في عصرنا، خصوصا أن مخزون الكمبيوتر قد جرى تحميله أساسا باللغة الإنجليزية، وليس يعنى ذلك تنصلا من المسؤولية أو تجاوزا للحقيقة، ولقد أتاحت لي زيارتي الأخيرة إلى أحد النوادي الكبرى في العاصمة المصرية أن ألتقي بعدد من الأصدقاء معظمهم من رفاق الطفولة زملاء الدراسة، وظللنا يومها نردد عبارات الزمن الجميل وطلب الرقي، ونتذكر مسرحيات وأغاني ذلك العصر، إذ ليس هناك ما هو أصدق دلالة من انعكاس الفن على الحياة، إلا الشعور بالولاء والانتماء في وقت واحد.
إن الذين يحاربون الفن إنما يحاربون الحياة، إن الذين يعادون الفنون بدعوى خروجها على النسق الأثير في كتابه الكريم لا يدركون أننا نؤمن بأن فكر الإنسان وخياله مجندان معا لخدمة المخلوقات، فالإنسان سيدها، وهو خليفة الله في الأرض ومصدر الإلهام في الوجود وكاشف الطريق نحو المستقبل.
مصطفى الفقي