بعدما كانت الفنيدق، التي تقع بالقرب من الحدود الوهمية باب سبتة المحتلة، قبلة للسياح والزوار الذين يرغبون في التبضع بالأسواق التي كانت تعرض كافة أنواع السلع المهربة من الثغر السليب، فضلا عن أنها كانت تشكل جنة لمافيا تبييض الأموال والاتجار الدولي في المخدرات وتزوير السيارات، أصبحت المدينة الساحلية الآن تعاني الأمرين، بعد تحولها إلى قبلة للمهاجرين السريين من مختلف مناطق المغرب وعدة بلدان إفريقية أخرى كالجزائر وتونس والسودان، إضافة إلى بلدان بالقارة الآسيوية، مثل سوريا ودول مجاورة لها تشهد حروبا واضطرابات أمنية.
الفنيدق: حسن الخضراوي
بعد إغلاق المعبر الوهمي في وجه شبكات التهريب والفوضى التي كانت تعم جميع القطاعات بسببه، فضلا عن تسجيل ضحايا حوادث التدافع والعنف والتحرش الجنسي وخرق حقوق المرأة والصورة السلبية عن حقوق الإنسان بالمغرب، ظهرت الحاجة الماسة إلى بديل اقتصادي حقيقي عن القطاعات غير المهيكلة. غير أن مؤشر التنمية ما زال يشهد انخفاضا ملحوظا، وانتشارا للبطالة في صفوف الشباب وتعثر مبادرات التكوين والتأطير، فضلا عن فشل القطاعات الحكومية في التدبير الأمثل لما بعد وقف التهريب، حيث يستمر العمل وفق إجراءات ترقيعية لحفظ السلم الاجتماعي، والاعتماد على توفير الشغل في مجال الإنعاش الوطني.
في كل هجوم للمهاجرين السريين وتوافدهم على مدينة الفنيدق، تضطر الدولة إلى استنفار كافة القوات العمومية والأجهزة الاستخباراتية، من أجل التعامل مع الوضع الأمني والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة، وضمان حماية سلامة الجميع، فضلا عن تنزيل قرار منع التسلل والهجرة السرية، تنزيلا لالتزامات المغرب الدولية والقوانين التي تنظم الهجرة الشرعية وعقود العمل الدائمة والموسمية، أو تأشيرات استكمال المشوار الدراسي أو ما شابه ذلك.
لا تكاد تمر شائعة مدمرة للهجرة السرية الجماعية نحو «الفردوس الموعود»، بغية تحقيق الحلم الوردي، وتوجه آلاف الشباب والقاصرين نحو مدينة الفنيدق، حتى تظهر شائعات أخرى بتغيير أساليب التحريض فقط، واستغلال فوضى المنصات الاجتماعية وتشكيل مجموعات سرية للتواصل، وتحديد تكتيك الهجوم على السياج الحدودي الوهمي مع باب سبتة المحتلة، فضلا عن التحريض على الاحتكاك مع القوات العمومية واستفزازها، ومحاولة تلطيخ وجه المؤسسة الحساسة، بادعاء أن أفرادها يمارسون سلوكات غير قانونية ضد المهاجرين السريين وممتلكاتهم.
بداية الشائعة
قبل ظهور شائعة الهجرة السرية الجماعية والاتفاق على يوم 15 شتنبر الجاري، كموعد لتنفيذها انطلاقا من مدينة الفنيدق، دخل أعضاء بالمجلس الجماعي للمدينة في صراعات قوية مع السلطات الإقليمية بالمضيق، نتيجة قيام مصالح الجماعة الحضرية بتهيئة شاطئ صغير جدا وضيق المساحة بالقرب من الحدود الوهمية، علما أن السلطات سبق ومنعت السباحة فيه كونه غير محروس، ويشتبه في استغلاله للهجرة السرية، كما أن المدينة تتوفر على كيلومترات ومساحات شاسعة من الشواطئ الصالحة للسباحة والمفتوحة للعموم وفق المعايير المطلوبة.
لم تمر سوى أيام قليلة على الصراع بين أعضاء في الجماعة والسلطات الإقليمية بالمضيق، حتى تم تنظيم وقفة احتجاجية بالمكان، وتجاوز منع القوات العمومية للسباحة بالشاطئ الصغير غير المحروس، وهو الشيء الذي رفعت بشأنه السلطات المختصة تقارير مفصلة إلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بتطوان، تم على إثرها الاستماع إلى برلماني سابق عن حزب العدالة والتنمية من قبل الضابطة القضائية، بتهم خرق تدابير أمنية بالشاطئ والتحريض على ذلك، رفقة عضو حزبي ومستشار جماعي عن المعارضة.
وبدأت موجة الهجرة السرية في الارتفاع رويدا خلال فصل الصيف، حيث تم عقد اجتماع أمني على أعلى مستوى بعمالة المضيق، تقرر من خلاله تسييج الشواطئ والكورنيشات، للحفاظ على حياة وسلامة جحافل القاصرين الذين تم التغرير بهم وتحريضهم على السباحة نحو مركز الاستقبال بسبتة السليبة، الذي يقوم بدوره بتوزيعهم على مراكز أوروبية أخرى.
بعد كل ما سبق ذكره من أحداث متسارعة، ظهرت شائعة الهجرة السرية الجماعية يوم 15 شتنبر الجاري، وانتشرت على المواقع الاجتماعية والصفحات المشهورة كالنار في الهشيم، كما تناقلها العديد من الأشخاص الذين يتابعهم الملايين بمنصات «تيك توك»، وتم تشكيل مجموعات على منصة التواصل «واتساب»، لتأطير المهاجرين السريين على كيفية مراوغة السدود القضائية والمراقبة الأمنية، والمبيت بالغابات والهوامش، تفاديا لإلقاء القبض عليهم من قبل الدوريات الأمنية، مع تنبيههم إلى حمل التمر والماء لتفادي الجوع والعطش وتجنب حالات الإغماء، بسبب العياء والنقص في مادة السكر.
استنفار واعتقالات
بعد الانتشار الواسع بسرعة البرق لشائعة «الحريك»، قامت مصالح الأمن الوطني والدرك الملكي والسلطات المحلية وكافة الأجهزة الاستخباراتية بالرفع من مستوى التنسيق الأمني لمحاصرتها، حيث تم إلقاء القبض على أزيد من 4570 شخصا من المهاجرين السريين، وإيقاف 75 شخصا من رواد المواقع الاجتماعية الذين قاموا بالترويج للشائعة، وتم تسليم الجميع إلى النيابة العامة المختصة بالدائرة الاستئنافية بتطوان، التي قررت متابعة جميع المتورطين في حالة اعتقال وإحالتهم على الجلسات للمحاكمة، طبقا للمساطر القانونية الجاري بها العمل في مثل هذه الحالات، مع الفصل في الملفات الجنائية والجنحية.
وتم نصب سدود قضائية بمداخل مدن الفنيدق وتطوان والمضيق وطنجة والعرائش وغيرها من مدن الشمال، قصد التفتيش ومنع المهاجرين السريين من الوصول إلى مدينة الفنيدق لتنفيذ الهجوم، حيث بلغت نسبة التوقيفات طيلة أسبوع كامل حوالي 1000 مهاجر في اليوم، وتضاعفت الأرقام عند اقتراب يوم الأحد 15 شتنبر، وسط ترتيبات أمنية على مدار الساعة.
وشملت الدوريات الأمنية الأحياء الهامشية التي كان يختبئ بها المهاجرون السريون والغابات المجاورة، حيث تفرق الجميع وقاموا بتشكيل مجموعات خطيرة، ضمنهم من يدمن أقراص الهلوسة ومن استعملها لأول مرة، حسب البحث الأولي، وتمت مهاجمة السياج الحدودي الوهمي مع سبتة المحتلة على مستوى منطقة وادي الضاويات وبليونش ومركز العبور والمراقبة وشاطئ الفنيدق، دون التمكن من التسلل أو الوصول إلى الثغر السليب.
وسجلت إصابات متعددة في صفوف القوات العمومية، نتيجة الرشق بالحجارة من قبل مجموعات المهاجرين السريين، حيث تم حمل الجرحى إلى المستشفيات العمومية بالمضيق وتطوان، كما سجلت اعتقالات بالجملة في صفوف المشتبه في استعمالهم العنف وإحداث الشغب في صفوف المهاجرين، وتم عرض بعضهم على الوكيل العام بمحكمة الاستئناف بتطوان، لمتابعتهم وفق القانون الجنائي المغربي.
وأصيب عدد من المهاجرين السريين أيضا في الهجوم، حيث تم إسعافهم وتوجيههم إلى المستشفى العمومي، في حين اختار البعض الهروب رغم الإصابة خوفا من العقاب القانوني، كما تم تسجيل لفظ البحر لجثة على مستوى ميناء الفنيدق للصيد التقليدي، ما استنفر السلطات لتوجيهها نحو مستودع الأموات، وفتح تحقيق في الموضوع، بتنسيق مع النيابة العامة المختصة.
وتم تخريب العديد من الممتلكات العمومية بالفنيدق، بالكورنيش وتكسير زجاج السيارات التابعة للأمن الوطني والقوات المساعدة وإضرام النار بالطريق العام، واستعمال حاويات الأزبال في الهجوم والكر والفر مع القوات العمومية، فضلا عن إثارة الرعب بالأحياء الهامشية والراقية على حد سواء، واختلاط أصوات صفارات الإنذار بصراخ المهاجرين السريين، ومحاولة البعض تحويل تجمعات بشرية من المتفرجين إلى وقفات احتجاجية، ورفع شعارات ترفض الوضع الاجتماعي وتنادي بحلول جذرية لمشكل البطالة، حيث تعاملت السلطات الأمنية مع الأمر بحزم وقامت بتفريق التجمعات البشرية من المتفرجين مرات متعددة.
مطالب بالتنمية
تكاد تجمع العديد من الأصوات المهتمة بالشأن العام المحلي والوطني بالفنيدق على تعثر التنمية بالمدينة، وضرورة تحرك قطاعات حكومية، من أجل تسريع فتح معامل بمنطقة الأنشطة الاقتصادية حيضرة، ودعم هيكلة القطاع التجاري ليواكب المعاملات المالية القانونية، فضلا عن التنمية السياحية الحقيقية، والاستغلال الأمثل للبنيات التحتية والموروث الثقافي والمناظر الطبيعية، وكذا حسن استغلال الذروة السياحية خلال فترة الصيف التي تشهد توافد آلاف الزوار والسياح.
وحسب الفاعل الجمعوي (ع.ش)، فإن مدينة الفنيدق كانت تستفيد بشكل كبير من التهريب المعيشي بباب سبتة المحتلة، من حيث كراء المنازل وترويج الاقتصاد المحلي ورواج الأسواق والمحلات التجارية، وتوفير فرص الشغل، حيث كانت جميع المؤسسات تعمل فقط على تدبير التهريب دون حاجة إلى التفكير في السلم الاجتماعي، الذي كانت تضمنه قوافل المهربين والتجارة غير المهيكلة، قبل أن ينتهي الأمر فجأة ومباشرة مع جائحة «كوفيد- 19»، والإجراءات الوقائية الوطنية والدولية التي صاحبتها.
وأضاف المتحدث نفسه أن المجلس الجماعي ثبت فشله الذريع في التنمية، بسبب الصراعات والتطاحنات الفارغة، ولا يرجى منه أي أمل في المستقبل بالنظر إلى هزالة جداول أعمال الدورات والتخبط في الروتينية وتصفية الحسابات بين النواب والرئيس، والصراعات المجانية مع السلطات الوصية وتصفية الحسابات الشخصية، ناهيك عن كون التراكمات الخاصة بالبطالة ظهر أنها تفوق حتى إمكانيات المؤسسات المحلية والإقليمية، ما يستدعي تدخل مجلس وولاية جهة طنجة – تطوان – الحسيمة، بتنسيق مع القطاعات الوزارية المعنية مباشرة.
وأشار الفاعل الجمعوي ذاته إلى أن فوضى التهريب لا أحد يختلف عن كونها كانت تمس بصورة البلاد، وتتسبب في تضرر الاقتصاد الوطني، وتتعارض وحقوق المرأة التي ارتبطت بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، والموت اختناقا ورفسا في حوادث التدافع المؤلمة، لكن السكان الآن يطالبون ببديل حقيقي خارج العمل في مجال الإنعاش الوطني، وبحث إجراءات ملموسة لتشجيع الاستثمارات واستقطاب المستثمرين، وتوفير فرص الشغل للشباب، ودعم تحريك عجلة الاقتصاد.
وتم تقديم أسئلة برلمانية تسائل الحكومة في موضوع الهجرة السرية الجماعية، وضرورة التصدي للشائعات بواسطة التدابير التي تساهم في التنمية وتوفير الشغل والعيش الكريم، فضلا عن ضمان الحق في التعليم والتكوين ومواكبة الشباب وتوجيهه، عوض تركه فريسة للاستغلال من قبل جهات لها أجندات خاصة، واستنزاف السلطات في عمليات أمنية متكررة لردع موجات الهجرة السرية، التي تهدد سلامة وحياة من يغامر بالسباحة، أو اقتحام السياج الحديدي الشائك، أو ركوب قوارب الموت.
هدوء حذر
بعد الأحد الأسود بالفنيدق، عاد الهدوء نسبيا إلى المدينة الساحلية، أول أمس الاثنين، الذي صادف الاحتفال بذكرى المولد النبوي لمحمد صلى الله عليه وسلم، وظهرت الشوارع خالية من المهاجرين السريين، سوى مجموعات قليلة حاولت العودة لتجريب حظها في العبور، وإثارة الشغب والرشق بالحجارة، كما تم إعطاء تعليمات برفع مجموعة من السدود القضائية، وتراجع الاستنفار الأمني، مع الاستمرار في التمركز بأماكن كانت تشهد تسللات في وقت سابق، والقيام بدوريات لتفقد جنبات الطرق وداخل الأحياء.
وعاينت «الأخبار» العودة التدريجية للحياة الطبيعية بالمدينة، غير أن جدل الهجرة السرية وأسبابها وحيثياتها انتقل إلى الأحياء الهامشية، وسط مطالب بضرورة خلق التنمية ومحاربة الهدر المدرسي، وحماية التلاميذ من خطر الاستقطاب من شبكات إجرامية تنشط في الهجرة السرية والتحريض لخدمة أجندات غامضة.
وحسب مصادر مطلعة، فإن النيابة العامة المختصة بتطوان تواصل التدقيق في كافة التقارير التي وصلتها والمحاضر الرسمية المتعلقة بحيثيات ملف شائعة الهجرة السرية الجماعية، واستهداف والتحريض على القوات العمومية بإطلاق شائعات سرقتها ممتلكات وأموال وهواتف المهاجرين السريين، وتعنيف القاصرين واعتقالهم تعسفيا.
واستنادا إلى المصادر نفسها، فإن العديد من الأصوات بالشمال رفضت الركوب المحلي والدولي على شائعة الهجرة السرية الجماعية، مع التأكيد على المحاسبة الداخلية وترتيب المسؤوليات خارج أي مزايدات انتخابوية، أو ممارسة الشعبوية، والبحث في تنزيل حلول جذرية لمشاكل البطالة، وخلق التنمية، وتوفير مستوى عيش كريم، ومقومات ومعايير الجودة في الخدمات، ما يمكن من تفويت الفرصة على من يقف خلف الشائعات مهما كان نوعها، ناهيك عن تنظيم النشر ووقف فوضى المنصات الاجتماعية وصفحات الابتزاز والتشهير وتداول الأخبار الزائفة، لجمع نقرات الإعجاب وتحقيق مداخيل مالية على حساب الأمن العام والسلم الاجتماعي، الذي بدون الحفاظ على استمراريته لا يمكن تحقيق أي شيء على مستوى الاقتصاد والرفع من مؤشرات النمو.