شوف تشوف

الرئيسيةدين و فكر

الفلسفة العدمية من الخيام والجامعة داوود إلى برتراند راسل

بقلم: خالص جلبي

هناك من يرى في فلسفة (برتراند راسل) أنها من مخلفات فكر القرن التاسع عشر الميلادي، ذلك أن الحضارة الغربية تواجه تحديا خطيرا، بل إن الحضارة الإنسانية هي في حالة تحول وانقلاب اليوم.
جاء في كتاب «العلم في منظوره الجديد» أن «الحضارة الغربية ما برحت منذ عصر النهضة تخضع لسلطان العلم التجريبي. بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة، تواجه في الوقت الراهن تحديا من علم القرن العشرين، الأمر الذي يفضي إلى وجود نظرتين علميتين متنافستين».
وهذا التحدي يأتي من أن العالم مقبل على تصور كوني جديد، لذا فإن صاحبي الكتاب المذكور عرفا هذا التصور للحضارة على الشكل التالي: «لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم، أي نظرة يفهم وفقا لها كل شيء ويقيم، والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها، ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها، وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة، والمقياس الذي تقاس به، وتصورنا للعالم هو من الأهمية، بحيث لا ندرك أن لدينا تصورا ما إلا حين نواجه تصورا بديلا، إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول»، ص 15.
إننا نرى في هذا السياق الفكري المكثف فلسفة العلم، فإذا ربطنا بين الفقرتين السابقتين نرى بوضوح أن العالم مقبل على تصور جديد، وهو يودع التصور القديم، وهنا في نقطة التمفصل هذه يجب أن يكون لنا دورا فيه، وهو قادم بإذن الله.

خلاصة الفلسفة العدمية
يقول برتراند راسل في كتابه المشهور «لماذا أنا لست مسيحيا»: «لأن يكون الإنسان نتاج أسباب لا تملك العدة اللازمة لما تحققه من غايات لا يكون منشؤه ونموه مجرد حصيلة ارتصاف ذرات عرضي، ولأن تعجز أي حدة في التفكير أو الشعور في الإبقاء على حياة فرد واحد في ما وراء القبر، ولأن يكون الاندثار هو المصير المحتم لكل عناء الأجيال ولكل التفاني ولكل عبقرية الإنسان المتألقة تألق الشمس في رابعة النهار، على ذلك لا يمكن بناء موطن الروح في أمان، إلا في إطار هذه الحقائق وعلى أساس راسخ من القنوط المقيم».
هذه هي خلاصة (الفلسفة العدمية) على لسان أبرز فلاسفة العصر الحديث (برتراند راسل)، الفيلسوف البريطاني صاحب المؤلفات الغزيرة، منشأ الإنسان ونموه مجرد صدفة، الاندثار والفناء يلف المصير الإنساني، ولا حياة أخرى، والأسباب التي أنتجت الإنسان لا تملك عدة تحقيق غاياتها؛ فلا خالق! وإذا كان الكون هكذا، فقد تكلل الوجود الإنساني بالخسوف الكامل من البداية حتى النهاية، وبالتالي فالكون يبدأ بداية عرجاء. الخلق فيه صدفة والنهاية فيه عبثية؛ لذا فلا غرابة أن ينتهي الفيلسوف إلى «الأساس الراسخ من القنوط المقيم».
هذا مع العلم أن برتراند راسل كان فيلسوفا عظيما مجليا مبدعا، وبرتراند راسل في الواقع ينقل ويصور بأمانة إلى أين انتهت النظرة العلمية القديمة؟ والتي سادت القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وما زالت تترك آثارها وبصماتها على التفكير الإنساني حتى الوقت الراهن.
«تقول الأسطورة اليونانية القديمة إن ملك كورنثيا (سيسيفوس) عوقب من الإله زيوس، بأن يرفع صخرة عظيمة من أصل الجبل ليوصلها إلى أعلاها، وفي الحين الذي تصل فيه إلى القمة تتدحرج إلى الأسفل ليعيد العمل من جديد».
هذا النوع من العمل الباطل العبثي الذي لا ينتهي ولا يجدي ولا يوصل إلى غاية ولا يفضي إلى نتيجة، هو أعظم عقوبة يمكن أن يعاقب عليها إنسان، وذهب مثلا في التاريخ عن العدم والعبث. ومن هذا المثل العبثي اتخذ (ألبير كامو)، الفيلسوف الوجودي الفرنسي، عنوانا لكتاب هام له هو «أسطورة سيسيفوس» ذكر فيه: «أن ما يتصف به العالم من تبلد وغرابة هو العبث بعينه… لو كنت شجرة بين الأشجار أو قطا بين الحيوانات، لكان لهذه الحياة معنى أو على الأصح لما كانت المشكلة مطروحة، لأنني أكون منتميا إلى هذا العالم ـ هذا العالم الذي أقاومه الآن بكل إدراكي ـ إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني متضادا مع كل الموجودات».
«باطل الأباطيل الكل باطل، ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟ الشمس تشرق والشمس تغرب. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن. العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع. ما كان فهو يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع فليس تحت الشمس جديد. أنا الجامعة كنت ملكا على إسرائيل في أورشليم، ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش عن كل ما عمل تحت السماوات هو عناء رديء، جعله الله لبني البشر ليعانوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس، فإذا الكل باطل وقبض الريح. الأعوج لا يمكن أن يقوم النقص، لا يمكن أن يجبر. وجهت قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل فعرفت أن هذا أيضا قبض الريح؛ لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم والذي يزيد علما يزيد حزنا».
بهذه الكلمات في سفر الجامعة داوود من العهد القديم نقلت لنا أيضا رؤى كئيبة عن العبثية والملل في هذا الوجود، في الحين الذي ينقلنا القرآن إلى وسط مشرق رائع عن داوود، الذي ينسجم مع الكون في صلاة مشتركة (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وأتيناه الحكمة وفصل الخطاب) «سورة ص ـ الآيات 18ـ 20»، في الحين الذي يرى القرآن الحياة هي الجدة، والجدة تعني كل يوم شيئا جديدا (كل يوم هو في شأن)، وبذا تمتزج جدلية الحياة بين الثابت والمتغير، بين الجامد والمتحرك، بين القديم والجديد.
كذلك نقلت لنا أبيات رباعيات الخيام طرفا من العبثية والملل وعدم الفهم والحيرة ـ والتعاسة في الوقت نفسه ـ لفهم هذا الوجود:
أحسن في نفسي دبيب الفناء ولم أصب في العيش إلا الشقاء
يا حسرتا أن حان حيني ولـم يتـــــــح لفكري حل لغز القضاء
تـــــــــروح أيامي ولا تغتدي كما تهب الريــــــــــح في الفدفد
وما طويت النفس هما علــى يومين: أمــــس المنقضي والغد
غدا بظـهر الغيب واليوم لــي وكـــــــم يخيب الظن في المقبل
ولســــــت بالغافل حتـــى أرى جمــــــــــــــال دنياي ولا اجتلي
سمعت في حلمي صوتا أصاب ما فتـــــــــق النوم كمام الشباب
أفق فإن النــــــوم صنو الردى واشـــرب فمثواك فراش التراب
سأنتحي الموت حثيث الورود وينمحي اسمي من سجل الوجود
هات اسقنيها يا مني خاطري فغاية الأيام طـــــــــــــول الهجود.
وهكذا فالكل ينهل من نفس المعين ويعب عن نفس الخواء.

النظرة المادية القديمة للوجود
إن النظرة العلمية القديمة (المادية العلمية) هي في طور الانقلاب اليوم بشكل ثوري.
إن هذا التوجه العلمي الذي بدأ في أوروبا، قبل ثلاثة قرون، أتى أكله في كل ميدان في الوقت الحاضر، في صور ليست وردية في كل ميدان. ولكن كيف ترى النظرة المادية القديمة الوجود؟
الكون مادة، والعقل إفراز ثانوي للدماغ، ولا حكمة وراء الطبيعة، وكل شيء يمكن تفسيره بلغة المادة؛ فلا غرابة إذن من هذه النتيجة؛ أن لا خالق في الكون، والكون يخضع للمصادفة و(الضرورة)، والاندثار والفناء يلف الوجود الإنساني؛ فلا عقل، ولا إرادة حرة. لا حياة أخروية ولا برمجة في الكون ولا غاية؛ بل يخضع الكل للعبثية، بل حتى الجمال هو غير موضوعي بل نحن اخترعناه!
لا غرابة إذن عندما درسنا الطب في الفيزيولوجيا لنقرأ نصف الآية (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، بدون أن نصل إلى نهاية الآية التي هي بيت القصيد كما يقال: (أفلا يؤمنون).
الإسلام أراد (العلم النافع)، أي هو ذلك العلم الذي له غاية ونهاية وخلق (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). ومن هنا نفهم عمق الحديث: (لا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم، الذي لا أزداد فيه علما يقربني من الله تعالى). الإسلام يريد العلم الغائي الذي يقرب إلى الله تعالى. يريد من الطبيب أن يخشع قلبه مع نبض الشرايين وضخ الدم وإفراز الهورمون وتفاعل المعدن وترابط الجزيئات.
يريده أن يتأمل ويتأثر بين إفراز الكبد الأصفر، ودم الشريان الأحمر الزاهي الناصع الفاقع. بين عمل الجهاز العصبي، وتوتر العضلات، وتماسك الأربطة. بين تسبيح الخلايا، ودمدمة النورونات، وتألق العصبونات وضخ القلب، وزخم الأفكار من الدماغ.
هنا جندت نفسي لهذه الرسالة منذ قرابة نصف قرن في اكتشاف هذا الفضاء الجديد للمعرفة، وهذه العلاقات المقدسة الجديدة، بل وهذا المنجم ذي الخامات المجهولة حتى الآن، في معرفة طبيعة جديدة، لترابطات جديدة، لصياغة عجينة جديدة، ورحيق جديد نغذي به شبابنا لاقتحام تيارات المعاصرة الجديدة، وولوج عواصف الحداثة، حتى يبدأ الضغط الدموي للجسم الإسلامي بالارتفاع من وضع الصدمة، وحتى يمكن جس نبض الحياة يضرب في عروقه، ونرى تورد الوجنات تعلن العافية الطبية، والفعالية تدب في الجسد الذي عانى من مرض القرون.

اختراقات معرفية جديدة
إن العلم الجديد منذ مطلع القرن العشرين مر بسلسلة من الثورات والتحولات المثيرة، بحيث تغيرت صورة العالم القديم والفكر القديم، وحالة العلم اليوم ليست سرعة، بل تسارع؛ فهناك تدفق مخيف لكم المعلومات، بحيث هناك انقلاب نوعي مع كل تراكم كمي، على الشكل الذي شرحه العلامة ابن خلدون قديما «أن التراكمات الكمية تقود في النهاية إلى تغير نوعي»، وهو انتباه رائع دشنه في القرن الثامن الهجري، عندما كانت الحضارة الإسلامية تدخل طور النوم واللا فعالية.
لقد تمت اختراقات رائعة ومذهلة لفضاءات جديدة قام بها العقل الإنساني، بعد أن بدأت الحضارة الإنسانية تدخل طورا جديدا؛ فلم تعد أوروبية أو صينية، وهذا كان تدشينا هائلا وصلت إلى أعتابه البشرية، وهي تؤمن اليوم أن السلاح النووي المشؤوم الذي توصلت إليه أمريكا في ما سبق في مختبر (لوس ألاموس) لم يكن أمريكيا محليا، بل كان نتاجا عالميا بالدرجة الأولى، حيث عمل في المختبر تيلر الهنغاري وفيرمي الإيطالي وكيستايكوفسكي الأوكراني وأوبنهايمر الأمريكي وفوكس الألماني الخ.
لكن العلم منذ أن كتب راسل كلماته التي أوردها سابقا في عام 1902 مر بسلسلة مثيرة من الانعطافات النوعية، حيث وجهت ضربات مزلزلة إلى النظرية المادية القديمة، وكانت الأولى إلى المعقل الرئيسي حقل الفيزياء على أيدي مجموعة من رواد القرن العشرين مثل أينشتاين ونيلز بور وهايزنبيرغ وأوتو هان وكارل فريديك فون فايتسكر وهانس بيته وأوبنهايمر وإنريكو فيرمي ولورانس وإدوارد تيلر وعشرات سواهم، حيث تم وللمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري الدخول إلى فهم أعمق للذرة، وبالتالي المادة والوجود المادي.

بدأت الحضارة الإنسانية تدخل طورا جديدا؛ فلم تعد أوروبية أو صينية، وهذا كان تدشينا هائلا وصلت إلى أعتابه البشرية، وهي تؤمن اليوم أن السلاح النووي المشؤوم الذي توصلت إليه أمريكا في ما سبق في مختبر (لوس ألاموس) لم يكن أمريكيا محليا، بل كان نتاجا عالميا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى