الفقيه «داميجو» والدراسة عن بعد
يونس جنوحي
ماذا حل بالمدارس العتيقة في فترة الوباء؟ كل النقاش الوطني، وحتى النقاشات العشوائية، انصبت على المدارس العمومية والخاصة واختيار «الحضوري» و«عن بُعد» ولا أحد اهتم على الإطلاق بالمدارس العتيقة، التي ينشط بها، بالمناسبة، عشرات آلاف الشباب المغاربة في مختلف ربوع المغرب.
ليس ممكنا بطبيعة الحال أن نناقش إمكانية تلقي عشرات آلاف طلبة المدارس العتيقة دروسهم «عن بُعد»، فالأمر غير ممكن نهائيا. وحتى في فترة الحجر الصحي التي أغلقت فيها المدارس العمومية والخاصة، لا أحد من الحكوميين ولا الجمعويين ولا حتى «المؤثرين» تساءلوا عن الحياة خلف أسوار المدارس العتيقة وجدرانها الطينية.
والمعروف أن هذه المدارس السائرة نحو الانقراض، تجمع مئات الطلبة، وفي بعضها يوجد آلاف الطلبة من كل مناطق المغرب يأتون إلى حضرة فقهاء لحفظ القرآن الكريم كاملا والعلوم الشرعية والحديث، وهناك طلبة اليوم بجلابيبهم البسيطة، متخصصون غير رسميين في كتب الفلك ومراقبة الهلال والمنطق، ويحفظون جمل ابن رشد ويعيشون في مغرب الموحدين والسعديين وينهلون من علم قضاة الدولة العلوية الأوائل، الذين ماتوا قبل أزيد من أربعة قرون، ومنهم من يحفظ المتون ويلتهمون المكتبات العتيقة.
لا أحد تساءل كيف قضى هؤلاء فترة الحجر الصحي، خصوصا وأن جل المدارس العتيقة تشكل مدرسة داخلية يعيش داخلها الطلبة طيلة اليوم والليلة، ولا يغادرونها مثل المدارس العادية، أي إنهم مجبرون على البقاء داخلها.
وهناك طلبة يعيشون في تلك المدراس بعيدا عن أسرهم، ولا يرونها إلا مرة كل سنتين. وخلال فترة الحجر الصحي كان الانتقال بين المدن مستحيلا، وبالتالي فإن هؤلاء التلاميذ كانوا مجبرين على قضاء الحجر الصحي داخل مدارسهم، وبطبيعة الحال لا يمكن أن نتحدث عن التباعد الاجتماعي ونصف القدرة الاستيعابية للقاعات، لأننا نتحدث هنا عن مدارس عتيقة يكابد المقيمون داخلها لكي يصبحوا من طلبة العلوم الشرعية، وفقهاء المستقبل.
غابت إذن هذه الفئة العريضة عن النقاش العمومي، ولم يتذكرها رئيس الحكومة الذي يعتبر آباؤه وأجداده من طلبة هذه المدارس العتيقة، بل ومن مؤسسي بعضها. وهناك مواطنون مسنون اليوم في سوس، إقليم تارودانت على الخصوص، كلما ذُكر اسم العثماني أمامهم، إلا وتذكروا سيارة «الإيركاط» التي كان يقودها عمه الذي كان محبا لأهل العلم، يجوب بها طرقات محفرة للوصول إلى المدارس العتيقة، التي يعود تاريخ بعضها في سوس إلى عهد المولى إسماعيل، لكي يلتقي بالفقهاء والطلبة ويحظى بفرصة تناول مخطوطات نادرة في الفلك والمنطق والطب، بعضها لا يزال إلى اليوم موجودا بالمكتبة الوطنية بالرباط، حيث نقلت بعض هذه المخطوطات حتى لا تلتهمها الحشرات والقوارض داخل المنازل الطينية الآيلة للسقوط.
في طنجة القديمة، توجد آثار مدارس عتيقة درس فيها مغاربة وصلوا إلى العالمية. أمثال الطيار المغربي الكولونيل عبد السلام بوزيان، الذي كان عضوا دبلوماسيا في سفارة المغرب بواشنطن لسنوات، وتولى تدريب الطيارين ورافق الملك الحسن الثاني مسؤولا عسكريا، منذ ستينيات القرن الماضي. هذا الأخير درس في مدرسة عتيقة بطنجة، انقرضت تماما وغطتها عمارات الإسمنت التي تأكل كل شيء.
بوزيان وغيره الكثيرون درسوا عند فقيه طنجاوي اسمه «الفقيه داميجو». هذا الاسم النادر والغريب، يعود لرجل علامة، كانت لديه طريقته الفريدة في تحفيظ التلاميذ آيات القرآن الكريم، وجل تلاميذه انتقلوا من «الكُتاب» إلى المدارس النظامية ومدارس البعثات الأجنبية في المغرب.
كان هذا الفقيه صديقا للمرشدين السياحيين في طنجة خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ولا يزعجه أن يأتي هؤلاء المرشدون السياحيون بالسياح من مختلف الجنسيات، لكي يروا الفقيه وهو يلوح بعصاه في الهواء مراقبا التزام التلاميذ بحفظ آيات القرآن الكريم. كان كلما دخل فوج من السياح يجتهد في رفع إيقاع قراءة الأطفال للقرآن، وعندما يهم السياح بالمغادرة، يحدث كثيرا أن تناوله إحدى السائحات الجميلات قدرا من المال إكرامية له، فيبتسم الفقيه في وجهها قائلا بالإنجليزية: «ثانكيو فيري ماتش». وهذه الجملة وحدها كانت تجعل التلاميذ يستلقون على ظهورهم من الضحك.
كان زمنا إذن، ومضى.