الفقيه بوشتى
أمعنت في التميز عن «محمد» في كل شيء.. بدا ذلك واضحا في الأعراس التي كانت تقام بدوارنا بين الفينة والأخرى، خصوصا في فصل الصيف عندما تجنى المحاصيل.. يبني أصحاب العرس خيمة كبيرة تسع لمئات الرجال.. وبجانبها يضربون أخرى صغيرة لأفراد يقلون عن العشرة.. الأولى يجتمع فيها العوام وكل من يحب المسامرة والتدخين وشرب الخمر.. والخيمة الصغيرة يجتمع فيها أهل «الصلاح» من حفظة القرآن وفقراء ومريدي الزاوية..
عندما تبَحُّ حناجر «الشيخات» (غناء شعبي) ويستسلمن للعياء يرفع «الفقهاء» أصواتهم بتلاوة القرآن وبمدح الرسول صلى الله عليه وسلم.. يتناوب «حفظة القرآن» وفنانات «العيطة» على تنشيط الأعراس بالبوادي.. أما بعض «المداهنين» من أهل القبيلة، فكانوا يجلسون مع «الفقها» في الخيمة الصغيرة ثم يتسللون لواذا إلى البناء المجاور ليسترقوا السمع وليستمتعوا بالرقص الماجن..
عندما تبوأ أخي مكانه داخل الخيمة الصغيرة وتصدر مجلس «الفقراء» و«االمادحين»، ومن أجل الإمعان في الاختلاف عنه، كنت أبحث لي عن مكان داخل الخيمة الكبيرة، حيث يكثر الضحك والمجون والرقص.. كانت هذه نقيصة من جانبي استغلها الوالد للطعن في سلوكي الجانح.. لم أجد حينها ما أدافع به عن نفسي أو أستطيع به تفسير رغبتي تلك..
وما دفعني إلى ذلك إلا توقي إلى النكاية بأبي والإثبات له أني أصبحت رجلا وأستطيع أن أختار بكل حرية رفقائي وجلسائي .. هكذا قد يفجر المرء إذا ركب العناد وبالغ في الخصام..
أكمل «محمد» حفظ القرآن.. يذهب إلى «الزاوية» فقط ليساعد الفقيه «بوشتى» في بعض أعماله اليومية.. ومراقبة «الطلبة» الذين لم يكملوا بعدُ حفظهم لكتاب الله.. كان يحكي لي كل شيء بتفصيل مملٍّ عما تحفل به زاوية «الفقيه» من تناقضات ودواهي تشيب لها الولدان.. إن الحسنة الوحيدة التي يمكن أن تحتسب لـ«بوشتى» هي أنه لقن القرآن الكريم لأطفال القبيلة، غير أنه لم يستطع أن يفسر لهم في حياتهم ولو آية واحدة من آيات الله.. هرب خفية من الدوار بعد أن نال حظا وافرا من الذل والهوان..
علمت عن طريق هذا «الفقيه» أن الإنسان يمكن أن يحمل آيات القرآن في صدره ولا يفهمها.. يحفظ كلام الله ثم يسير على غير هداه.. كذلك كان الفقيه «بوشتى» يعاني من انفصام فظيع في الشخصية.. مصائبه ظلت سرا ولم تبرح ظلمة «الزاوية» إلى الوقت الذي افتضح فيه أمره.. (بطبيعة الحال ليس كل الفقهاء مثل بوشتى).
أذكر ذلك اليوم الذي أتممت فيه حفظ جزء «قل أوحي».. ذهب معي أقراني إلى «الخيمة» وأعدّت لهم أمي وجبة غداء من البيض المقلي في زيت الزيتون.. استمتعنا بالأكل واللعب.. كانت أمي تراقبنا من بعيد وهي سعيدة لذلك.. كنت أكره «بوشتى» وأكره «زاويته».. وكان يكرهني ولا يتحمل وجودي عنده في «وكره».. كان يضربني بدون رحمة وكأنه يتلذذ بتعذيبي..
فاحت خطايا كثيرة من «الزاوية» (…) ذاع الخبر في أهل الدوار كما تنتشر النار في الهشيم.. تدخل عقلاء القبيلة لإطفاء لهب الفتنة.. وتم فصل «الطالب» عن متابعة دراسته القرآنية.. تولَّى الفقيه كبْر ما كان يحدث بـ«الزاوية».. ندم أهل العقد في القبيلة على عدم اختيارهم الفقيه الأنسب لتعليم أولادهم.. جاء «بوشتى» من قبيلة نائية و«شارط» عندهم، فتكفلوا بأكله وشرابه مقابل تحفيظ أولادهم القرآن، زيادة على شرط «الرْبَاعِية» (قدر من المال) نؤديها له كل يوم أربعاء.. كان يعيش أيضا على صدقات المحسنين ويستفيد من «العُشُور» التي كان يخرجها بعض الفلاحين من حصادهم للشعير أو القمح أو الذرة..
امتهن الفقيه أيضا كتابة «الحروز» للأطفال والنساء، وقد ادعى أنه يشفي من الأسقام.. ويروي غليل العشاق.. ويدفع عن النساء العين ويأتيهن بالأولاد والأحفاد.. لم يكن متزوجا، وكان نساء الدوار يقصدنه في كل وقت طمعا في «بركته» وبحثا عن «حرزه» الواقي من عين كل عدوّ أو حاسد.. ما زال أنفي يتأذى من رائحة زاويته العفنة..
أذكر صورة كتاب قديم كان يستعين به في كتابة التمائم، إلى جانب محبرة غليظة يوجد بها مداد ناصح السواد.. يخط الفقيه طلاسمه على الأوراق البيضاء التي تغلف بها قوالب السكر يومئذ.. عندما كنت أصاب بالمغص أو بصداع في الرأس كان «محمد» يأتينا بتمائم «سي بوشتى».. كانت في نظر والدتي صالحة لكل الأمراض.. تدرُّ عليه أموالا كثيرة.. لكنها في كل الأحوال كانت تجارة كاسدة..
كنت أرفض هذه الأعمال «السحرية» بالرغم من حداثة سني، إلا أن أمي كانت تُكْرِهُني على تعليق التمائم في عنقي أو على مستوى بطني.. أبغضها بدون سبب ظاهر.. علمت فيما بعد أنها ظلم كبير في حق العباد..
أذكر أني قلت لها يوما:
ـ اسمعي أماه.. إن الفقيه رجل غير صالح، ولا يمكن أن ينتفع الناس بـ«بركته».. إنه يأتي السحر، ولا يفلح السحرة أينما حلوا..
قلت كلاما أكبر مني لأني عندما كنت في «الزاوية» سمعت طالبا يحفظ «ثمنا» من سورة «طه».. كان يردد: (إنما صنعوا كيد ساحر. ولا يفلح الساحر حيث أتى).. كنا نحفظ القرآن بصوت مرتفع وكل «طالب» يردد «الثمن» الذي كتبه بنفسه على اللوحة أو كتبه له الفقيه..
عاتبتني أمي قائلة (أذكر أنها كانت تطحن الشعير بواسطة رحى حجرية):
ـ لا تقل هذا يا بني.. إن فقيهك الذي علمك القرآن له فضل عليك وعلى أخيك محمد..
ـ هذا صحيح أمي.. فنحن نحفظ عنه القرآن فقط ولا ينبغي أن نوافق على أعماله الشريرة..
ككل مرة عندما أبدي جرأة زائدة في أي جدال مع أمي تلتجئ إلى تعنيفي وتغيير موضوع النقاش.. لكنني أصررت على النيل من «الفقيه»:
ـ «بوشتى» رجل منافق.. اسألي ابنك «محمد» فهو يعرف فساده وخطورته على الدوار.. (كنت أمسك في يدي مقلاعا صنعته لاصطياد الفراخ)
هذه المرة لم تتمالك أمي أعصابها، فحاولت ضربي بعصا قصيرة كانت بجانبها، فأصابتني دون ألم في رجلي اليمنى.. انتهى الحوار بدون نتيجة.. كيف تقبل أمي من يطعن في «الفقيه»، وهو طبيب القبيلة يداوي مرضاها من «السقم» و«الوجع».. ويساعد اللاتي تأخر حملهن.. والعوانس اللائي ينتظرن زوجا قد يأتي وقد لا يأتي.. و«يواسي» من هجرها زوجها أو اتخذ من دونها خليلة.. كان «بوشتى» يكذب على الناس ويستغل جهلهم ليستحوذ على أموالهم.. كان سبب كل المصائب والبلايا في القبيلة..
يحكى لي «محمد» أنه ذات يوم سأل الفقيه:
ـ كيف تصنع هذه التمائم للناس وأنت تعلم أنها غير نافعة لهم؟ (لا أدري كيف علم أخي أنها غير نافعة وكان اليد اليمنى للفقيه)
ـ أنا ألبي طلباتهم فقط.. فلو امتنعوا عنها لأحجمت عن كتابتها.. هم يريدون «الحروز» وأنا في حاجة إلى المال..
كان الفقيه يحترم أخي كثيرا لأنه كان يساعده في مراقبة طلبة القرآن، ولأنه كان أيضا أمينا على أسراره.. علم «محمد» مبكرا أن «الفقيه» يشكل خطرا داهما على الأهالي أو بالأخص على نساء القبيلة، لكنه سكت عن فضح «شيخه».. لقد دسَّ أهل العقد معهم أفعى سامة، تتحين كل فرصة متاحة، فتصيب بسمها كل من يقترب منها.. لم يَثُر «محمد» في وجهه، ولا استنكر أعماله الخسيسة، لأنه كان يستفيد من المكانة التي بلغها بحفظ القرآن، ويستشعر دائما فضائل الفقيه عليه..
أتساءل لماذا لم يقطع مشايخ القبيلة رأس هذا الحيوان في الوقت المناسب قبل أن يلغ في عرض الأهالي الصغير منهم والكبير؟