الفقهاء والأدب السلطاني
عبد الإله بلقزيز
مع أن الفقهاء نظروا إلى أنفسهم، باستمرار، بوصفهم فئة علمية متميزة عن سائر فئات العلم في الإسلام، متميزة بنوع المعرفة التي تحمل والتي يُحتاج إليها لمعرفة أحكام الشرع، وانضباط السلوك والحياة لنظام الشريعة (وتلك من أسباب خصومتهم لعلماء الكلام وجدالياتهم في أمور العقيدة والإلهيات، التي لا ينفع العلم بها عند الفقهاء، وللمتصوفة الذين يزعمون علما إشراقيا حدسيا من دون قياس).
ومع أن تعظيمهم لعلمهم مأتاه من أنه علم الآخرة – كما يقول الغزالي – أو العلم بما يُسلك به إليها، إلا أنهم ما تخلوا عن حقهم في العلم بشؤون الدنيا، وفي الإيحاء بأنه العلم الحق الذي يحتاج إليه ويسترشد به، فطفقوا يكتبون في أغراض شتى تقع في دائرة الدنيوي ويقعدون لها التقعيد الفقهي.
ولا نعني بعلوم الدنيا ما يقع في دائرة فقه المعاملات، والأحوال الشخصية من أنكحة ومواريث وبيوع وتجارات…، مما اعتاد الفقهاء أن يتناولوه بالحكم والفتوى والتأليف، إلى جانب فقه العبادات، بل نعني أكثر الدنيويات بعدا عن التشريع الديني مثل السياسة والإمامة ونظام الحكم..
صحيح أن مفهوم الفقيه للسياسة والسلطة بما هما فرع من الدين، يخضع لضوابط أحكامه الشرعية تعرض للتعديل الحاسم مع الزمن، ووضعت له السلطة نفسها حدودا لا يتخطاها؛ وصحيح أن إمساك السلطان بأمور السياسة وفرض قواعدها على الجميع، حد من جموح الفقيه ومن تطلعه إلى فرض وصايته عليها باسم الدين، ومع ذلك لم يفوت الأخير فرصة البقاء قريبا من مركزها، وتقديم «التنازلات» الضرورية عن طوباه لقاء تعزيز مركزه وحفظ بعض الدور له: ولو خدمة للسلطة بشروطها هي.
على أن الفقيه لم يعدم وجود منافس قوي له على السياسة والسلطان هو الكاتب السلطاني. إن معرفة الأخير من مصدر آخر غير مصدر الفقيه (= السياسة الشرعية)؛ وهي محصلة المعارف العملية بطرق تدبير السلطة على نحو ما ألف فيها الفرس واليونان وتلقنها الكاتب السلطاني: مدركا أنها وحدها تفيد الأمير في العلم بكيفية إدارة الدولة وسياسة الرعية.
وإذ أدرك الفقيه أن عدته في السياسة لا تعدو المعرفة بأحكام الشرع وبمعيار شرعية من يسوس الجماعة الإسلامية، وأنه خارج نطاق الرأي الديني لا يملك أن يقدم إلى الأمير شيئا آخر ذا بال، عن له أن يعزز معرفته الشرعية بمعرفة للسياسة تكون دنيوية ووظيفية على مثال ما يبغي الماسكون بأزمة الأمور في السلطة. لذلك ما كان له من مناص غير أن يضرب بيده إلى أصول الأدب السلطاني، التي يمتح منها الكاتب – الأديب، يقرأها ويغنم منها بعض ما يعيد به تأهيل نظام معرفته السياسية. هكذا بات من المألوف عند كبار الفقهاء، مثل الغزالي والماوردي، أن يؤلفوا نصوصا في السياسة على منوال نصوص عبد الحميد الكاتب وابن المقفع لا تشبه، في شيء، ما اعتادوا كتابته.
من النافل القول إن استعارة الفقهاء آداب الكتاب السلطانيين، والتأليف على منوالها، حصلت في اللحظة عينها التي حسم فيها أكثرهم أمره، فاختار العمل إلى جانب السلطة نائيا بنفسه عن أدوار الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل مختارا التخفيف من تشدده في تحكيم الشرع في شؤونها، موثرا المنافحةَ عنها بما هي عنوان لوحدة الجماعة وجمع شملها وكلمتها. وكما يفصح وعيه الجديد الإيجابي بالدولة عن منزع پراغماتي واقعي، كذلك يعبر التجاء الفقيه إلى خطاب خصمه (= الكاتب السلطاني)، واستدخاله في عُدة خطابه عن مسلك پراغماتي؟ أليست المصلحة قاعدة دارجة من قواعد الفقه يعمل بها عند الاقتضاء، وتنطبق عليها أحكام الضرورة: الأحكام التي لا يختلف الفقهاء في مشروعية العمل بها؟
على أن تطعيم الفقهاء معارفهم بمعرفة السياسة العملية عند الكتاب السلطانيين لم يكن يفهم منه هؤلاء أن هذه المعرفة أرفع مقاما من معارفهم الشرعية، بل ظل اعتدادهم بها كبيرا، وظلوا حريصين على إدخال المعرفة السلطانية بما هي فقرة فيها، لا من حيث هي موازية للسياسة الشرعية. أخذوا من الكتاب ما كان ينقصهم، ولكنهم أدركوا أن عدة هؤلاء الكتاب ناقصة لأنهم مجردون من ثقافة شرعية، ولأن سياساتهم تقوم على مصلحة الحاكم فحسب، على حساب الشريعة. وهكذا قدموا أنفسهم للسلطة بوصفهم حملة معرفة سياسية تمشي بقدمين: الشرع والآداب السلطانية؛ وهما معا إسمنت السلطة في المجال الإسلامي.