شوف تشوف

الرأيمجتمع

الفضول وصناع الرأي العام

 

 

بيار عقيقي

 

أفضل هِبة ممكن أن يحظى بها إنسان هي «الفضول». إن كنت فضوليا، بمعنى حب الاكتشاف والمعرفة، لا بمعنى حشر نفسك في ما لا شأن لك به، ستفعل الكثير. الفضول مناقض للجماد، ومفتاح للإدراك. دائما ما تجد أفرادا ومجتمعات لا يسعون للمعرفة، الهادفة إلى تطورهم، بل يركنون إلى ما يعتبرونه «أمانا اجتماعيا». لو لم يكن هناك إنسان فضولي، لما كنا اكتشفنا كيفية إشعال النار والتحكم بها، ولا اختراع العجلة، من العناصر الأهم في تاريخ البشرية. الفضول المعرفي يخلق هدوءا فكريا، أما الجمود في تفعيل حس الإدراك، فلا يؤدي سوى إلى الصدام العبثي، ولا طائل منه.

غير أن الفضول مفقود لدى مجتمعات كثيرة، وبين أفراد عديدين. لكن تجاهل الفضول لدى من يعد نفسه «مؤثرا بالرأي العام»، مرسخا الجمود الفكري، يعتبر كارثة مجتمعية. قد يكون هذا النوع من «المؤثرين» من الإعلاميين أو الكتاب أو الفنانين أو الرياضيين، يعني في كل القطاعات ما عدا السياسة، كون السياسيين مثقفين بحدود مصالحهم الشخصية أو انتمائهم الحزبي ـ الطائفي ـ المناطقي، لا الإنساني البحت.

الجماد الفكري لدى المؤثرين في الرأي العام يسمح بتحويل مبدأ الفضول إلى عنصر غير مرغوب فيه، وبالتالي، طمس تطور أي فكرة تسهم في نمو المجتمع. وحين يتحول المؤثرون إلى ديكتاتوريي فكر، على اعتبار أنهم يلقون كلمة منزلة من عل، وعلى الجميع تلقفها بخشوع ورهبة، فإنهم يكرسون نظاما فوقيا، أرسته المجتمعات البدائية، وفقا لمنطق عد صحيحا أو صالحا في حينه. لا يقبل هؤلاء رأيا مناقضا لهم، أو يدعون أنهم أكثر فهما من غيرهم.

كم مرة سمعنا وقرأنا عن أشخاص يقولون: «كنا نفعل كذا وكذا» ويتحسرون؟ لا ينبع تحسرهم من عامل السن، بل لأن عقولهم تجمدت في لحظة ما. وهنا يجب التفريق بين من يختار بكامل وعيه أفكارا محددة، رافضا الفضول المعرفي، ومصاب بمشكلة مرضية تؤثر بالسلب على تفكيره. ومن جمالية الفضول أنه جزء من تواضع مرغوب به في محطات يومية وتفاصيل صغيرة عديدة. ومع أن من حق الإنسان الشعور بالفخر، وهو أمر مطلوب أيضا، إلا أن التواضع الناشئ من الفضول يسمح لهذا الإنسان باستيلاد نقطة توازن داخلية، تجعله متصالحا مع ذاته. وهنا، حين يشعر الإنسان أن شيئا ما ينقصه، لا يكون الأمر متعلقا بنقص في المصالحة مع الذات، بل بوجوب اكتشاف شيء جديد، عبر الفضول المعرفي.

صحيح أن الإنسان يمر بلحظات تعاسة إلزامية، كحالات وفاة أقرب الناس إليه، لكنه يحتاج إلى التذكر أنه عدا عن كونه على هذه الطريق أيضا، فإن الفضول يسمح له بتأمين الاستقرار النفسي. يدعو بعضهم هذا الفضول بـ«الشغف»، ويراه آخرون «أمرا جوهريا» في الدنيا، لكنه في مطلق الأحوال يبقى مفتاحا لتطوير فكرة أو سلوك أو نمط، أو تغييرها حتى. والفرد الذي يكون أسير أفكاره الجامدة لا يستعبد عقله فحسب، بل أيضا محيطه الصغير والأوسع.

وبما أن الحقول المعرفية لا محدودة، والتشعب فيها يسمح بإنشاء نمطية متحركة من التفكير، تساند ارتقاء المجتمع فكريا، فإن الحاجة الأهم تكمن في السماح بتمكين الجميع من إدراك أهمية هذا الفضول وتلبية رغبتهم في الاكتشاف، ولكن أيضا في فهم أن التواضع أساس الفضول، ونقطة ارتكاز لإنسان متحرر من القشور.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى