شوف تشوف

الرئيسيةالملف السياسيسياسية

الفساد كلفة ثقيلة :  مؤشرات مقلقة والحكومة تراهن على الرقمنة

قبل ست سنوات، وفي الدقائق الأخيرة لنهاية ولايتها، أطلقت حكومة بنكيران الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، خصصت لها مبلغا ماليا قدره 180 مليار سنتيم، لتنزيلها على أرض الواقع، لكن مختلف المؤشرات الدولية والوطنية تؤكد أن الفساد مازال يضرب أطنابه داخل مختلف القطاعات، ويشكل عائقا حقيقيا أمام التنمية المنشودة، نظرا لكلفته الثقيلة على الاقتصاد الوطني، كما أن الحكومة السابقة، فشلت فشلا ذريعا في الحد من الظاهرة، التي ازدادت استفحالا، فهل ستنجح الحكومة الحالية في تحقيق تقدم في مؤشرات إدراك الفساد والرشوة، خاصة في ظل الرهان على الرقمنة، وبعد توسيع صلاحيات واختصاصات الهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة؟

 

إعداد: محمد اليوبي – النعمان اليعلاوي 

اختصاصات وصلاحيات جديدة للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة

 

صدر قانون جديد يتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، يتضمن مجموعة من المستجدات الهادفة إلى توسيع صلاحيات الهيئة وتعزيز اختصاصاتها للمساهمة في محاربة الفساد.

ويأتي مشروع هذا القانون في إطار تنزيل أحكام الدستور وخاصة الفصل 167 منه، وذلك من خلال تعزيز موقع الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها كمؤسسة وطنية للحكامة، والتي تضطلع بمهامها، في إطار من التعاون والتكامل والتنسيق المؤسسي والوظيفي، مع السلطات والمؤسسات والهيئات الأخرى المعتبرة ضمن المنظومة الوطنية المعنية بمكافحة الفساد.

كما يندرج في سياق تأهيل الهيئة للنهوض بالمهام الملقاة على عاتقها، سواء في نشر قيم النزاهة والشفافية والوقاية من الرشوة، أو في مجال الإسهام في مكافحة الفساد، ويتضمن المشروع مقتضيات جديدة تهدف بصفة أساسية، إلى توسيع نطاق مهام الهيئة، ومراجعة آليات اشتغالها وقواعد تنظيم عملها ونظام حكامتها، وذلك بغية تحقيق درجة النجاعة والفعالية المطلوبة في عملها، وتوطيد الجهود التي تبذلها الدولة من خلال الأدوار المسندة لعدد من السلطات والهيئات لمواجهة ظاهرة الفساد بكل تجلياته، والعمل على محاصرتها بالوسائل الوقائية والردعية المتاحة.

ومن أهم المستجدات الواردة في القانون، توسيع مفهوم الفساد، وينص القانون على أن المهام الجديدة الموكولة للهيئة في مجال مكافحة الفساد، في إعادة صياغة المقتضيات المتعلقة بتحديد مفهوم الفساد وذلك بغاية توسيع نطاق تعريفه وتطبيقاته، حتى يكون مفهوم الفساد شاملا لجريمة تبديد الأموال العمومية ولما قد يجرمه المشرع مستقبلا من أفعال، بدل حصر مفهوم الفساد في جرائم الرشوة واستغلال النفوذ والاختلاس والغدر، كما ينص على ذلك القانون الحالي للهيئة، كما يشمل مفهوم الفساد أيضا المخالفات الإدارية والمالية، التي تشكل سلوكات تتسم بالانحراف وعدم حماية الصالح العام، وتناقض القواعد المهنية، ومبادئ الحكامة وقيم الشفافية والنزاهة.

ويميز القانون بين نوعين من أفعال الفساد المحددة لمجال تدخل الهيئة وهما، الأفعال التي تشكل جرائم بطبيعتها، حيث عناصرها الجرمية واضحة، تحيلها الهيئة إلى النيابة العامة المختصة، ثم الأفعال التي تشكل مخالفات إدارية ومالية تكتسي طابعا خاصا يتنافى مع مبادئ التخليق والحكامة الجيدة وحسن تدبير الأموال العمومية، دون أن ترقى إلى درجة تكييفها جرائم قائمة بذاتها، ولكونها تعتبر مخالفات مهنية بالأساس، فإنها في حال ثبوتها تؤدي إلى متابعة تأديبية في حق مرتكبها وتوقيع عقوبات إدارية أو مالية في شأنها، مع تمكين الهيئة من إجراء أبحاث وتحريات وإعداد تقارير تحيلها على السلطات والهيئات المختصة، بتحريك المتابعة التأديبية أو الجنائية حسب الحالة.

كما يتضمن القانون مقتضيات تهدف إلى توسيع نطاق مهام الهيئة ومجالات تدخلها، وذلك عبر مراجعة مهام الهيئة في ضوء أحكام الدستور، والتي تقوم على ثلاثة أبعاد أساسية تتمثل في البعدين التخليقي والوقائي للهيئة، من خلال التنصيص على صلاحية الهيئة لاقتراح التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة في مجال الوقاية من الفساد ومكافحته والآليات والتدابير والإجراءات الكفيلة بتنفيذها على الوجه الأمثل، والسهر على استراتيجية وطنية متكاملة للتنشئة التربوية والاجتماعية على قيم النزاهة، ولاسيما في مجالي التربية والتكوين.

أما البعد التدخلي من خلال الإسهام في مكافحة الفساد، فقد منح المشروع للهيئة مجموعة من الصلاحيات الجديدة، نتيجة توسيع مفهوم الفساد، وتتمثل هذه الصلاحيات في تلقي التبليغات والشكايات والمعلومات في شأن حالات الفساد ودراستها، والتأكد من حقيقة الوقائع المضمنة بها من خلال القيام بعمليات البحث والتحري، عبر إجراءات ميدانية تتجسد في الصلاحيات المخولة لمأموري الهيئة من أهمها الدخول إلى مقرات الأشخاص الخاضعين للقانون العام والمقرات المهنية للأشخاص الخاضعين للقانون الخاص وطلب الوثائق والمستندات والاستماع للأشخاص المعنيين، كما يتيح المشروع للهيئة وضع يدها على حالات الفساد التي تصل إلى علمها تلقائيا ودون أن تكون مقيدة بوجود شكاية أو تبليغ، كما يمكن المشروع الهيئة من التنصيب مطالبة بالحق المدني في القضايا المتعلقة بالفساد المعروضة على القضاء في حالة عدم تقديم الوكيل القضائي للمملكة لمطالبه المدنية نيابة عن الدولة داخل أجل ثلاثة أشهر، وذلك بغرض تمكين الهيئة من تتبع قضايا الفساد المعروضة على القضاء، وعلاوة على ذلك، فقد منح مشروع القانون الهيئة أيضا اختصاصا جديدا يتمثل في إمكانية قيامها، بطلب من السلطات العمومية، بإجراء تحقيقات إدارية في وقائع خاصة تتضمن مؤشرات حول شبهة وجود فساد وإعداد تقرير بشأنها، وذلك بالنظر إلى ما تتمتع به الهيئة من استقلالية، وهذا الاختصاص يكتسي طابعا نوعيا سيمكن الدولة من التوفر على آلية موازية ومستقلة للبحث والتحري والتحقيق في القضايا التي لا تكتسي طابعا جرميا ولكن شبهة الفساد قد تحوم بشأنها.

ويحدد القانون عمل مأموري الهيئة في مجال إجراء الأبحاث والتحريات، وذلك بتمكين الهيئة من آليات اشتغال تستجيب لمتطلبات المهام المنوطة بها، وعلى الخصوص منها الوضع القانوني لمأموريها وصلاحياتهم، والتنصيص على أدائهم اليمين القانونية أمام محكمة الاستئناف بالرباط، مع تكليفهم بعمليات البحث والتحري من قبل رئيس الهيئة وتحت سلطته، من خلال طلب المعطيات ذات الصلة بالملف وجمعها ودراستها وتحليلها، وإنجاز محاضر ترفع إلى رئيس الهيئة، وهي محاضر ذات قيمة قانونية، يوثق بها إلى أن يثبت ما يخالفها، ومن أجل ممارسة الصلاحيات المذكورة، فقد خول القانون لمأموري الهيئة في إطار مهامهم المتعلقة بالبحث والتحري، إمكانية الولوج إلى مقرات أشخاص القانون العام والمقرات المهنية للأشخاص الخاضعين للقانون الخاص، وفي هذه الحالة نص مشروع القانون على إلزامية مشاركة ضابط أو عدة ضباط للشرطة القضائية في عمليات البحث والتحري داخل هذه المحلات، وينص المشروع على تطبيق عقوبات تأديبية وجنائية في حق الأشخاص الذين يقومون بعرقلة عمل الهيئة، بامتناعهم عن الاستجابة لطلباتها دون مبرر قانوني.

ويتضمن القانون مستجدات تتعلق بإعادة النظر في اختصاصات أجهزة الهيئة، والتنصيص على تعيين ثلاثة نواب لرئيسها، وإحداث لجنة دائمة لدى مجلس الهيئة، تتكون من الرئيس وثلاثة نواب له معينين من قبل مجلسها، تتكلف بدراسة ملفات القضايا المتعلقة بحالات الفساد المعروضة ذات الصلة، واتخاذ القرارات المتعلقة بها باسم المجلس، وذلك بإحالة استنتاجاتها وتوصياتها إلى الجهات المعنية بتحريك مسطرة المتابعات الإدارية أو الجنائية، مع اطلاع رئيس الهيئة للمجلس على المعطيات المتعلقة بجميع الملفات التي عرضت على الهيئة أو أحيلت على اللجنة الدائمة، وينص القانون على تخويل رئيس الهيئة إعداد كل الآليات اللازمة لتمكين الهيئة من ممارسة اختصاصاتها، كما هو الشأن بالنسبة لصلاحيات في إعداد جميع مشاريع القرارات المزمع عرضها على مجلس الهيئة وإعداد مشاريع النظام الداخلي للهيئة والنظام الخاص بالصفقات والنظام الأساسي الخاص بالمواد البشرية العاملة بالهيئة وتقريرها السنوي، وغيرها من النصوص، شريطة أن تعرض هذه النصوص على مصادقة مجلس الهيئة للتداول في شأنها.

 

أين تبخرت 180 مليار سنتيم المخصصة لمحاربة الفساد

 

 

خصصت حكومة بنكيران في الدقائق الأخيرة قبل نهاية ولايتها، مبلغا ماليا يقدر بـ180 مليار سنتيم لتمويل الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، لكن بعد مرور أزيد من ست سنوات ما زالت هذه الاستراتيجية مجهولة المصير، ولم يظهر لها أي أثر في الواقع، وكان من بين أهدافها الحد من الفساد بشكل ملموس في أفق 2025.

ووضعت الاستراتيجية هدفين أساسيين، يتمثلان في تعزيز ثقة المواطنين، وثقة المجتمع الدولي في صورة المغرب، وتضم 16 محورا استراتيجيا، تستند إلى أربع مرجعيات تتمثل في التوجيهات الملكية السامية والمبادئ الدستورية والبرنامج الحكومي والالتزامات الدولية، وتقوم على عدد من الركائز المتمثلة في الحكامة والوقاية والزجر والتواصل والتوعية والتربية والتكوين. والتزمت الحكومة بتفعيل الاستراتيجية المذكورة عبر ثلاث مراحل، مع إجراء تقييم عند انتهاء كل مرحلة، حول مستوى تقدم إنجاز المشاريع المبرمجة وتحقيق النتائج المسطرة.

لكن مختلف التقارير الدولية تؤكد استمرار ظاهرة الفساد، حيث صنفت منظمة الشفافية الدولية المغرب في المرتبة الـ87 عالميا من أصل 180 دولة في مؤشر «مدركات الفساد» لسنة 2021. ووفقا للمنظمة الدولية، فقد حصل المغرب على رصيد نقاط إجمالي قدره 39 نقطة، ليتراجع بنقطة عن ترتيبه السابق خلال سنة 2020.

على الصعيد المغاربي، جاء المغرب في الرتبة الثانية، خلف تونس التي احتلت المركز الـ70 عالميا؛ في حين جاءت الجزائر في المرتبة الثالثة باحتلالها المركز الـ117 عالميا، تليها موريتانيا التي احتلت المركز الـ140 عالميا، فيما تصدرت الإمارات العربية المتحدة دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، واحتلت المركز الـ24 عالميا، لتكون بين الدول الأكثر شفافية ونزاهة في العالم، حاصلة على 69 نقطة على المؤشر العام لمكافحة الفساد، متبوعة بقطر (المركز الـ31 عالميا)، فإسرائيل (المركز الـ36 عالميا)، ثم السعودية (المركز 52)، وعُمَان (المركز 56 عالميا).

وفي السياق ذاته، قدمت جمعية «ترانسبرانسي» عددا من التوصيات الإجرائية، «لإخراج المغرب من الفساد المتفشي والوقاية من الرشوة ومحاربتها»، من ضمنها تفعيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، واستكمال قانون الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، وأوصت الجمعية بسن قانون يتعلق بتضارب المصالح، وتنفيذه بهدف وضع حد لهذه الحالات التي يتم رصدها بشكل يومي، سيما في الصفقات العمومية، فضلا عن مراجعة قانون ضمان حماية فعالية الشهود والمبلغين عن الفساد.

كما دعت «ترانسبرانسي» المغرب، إلى تجريم الإثراء غير المشروع في إطار المبادئ الأساسية التي ينص عليها القانون، وتعديل القوانين المتعلقة بالتصريح بالممتلكات وتنفيذها. وتزايدت مظاهر الرشوة في مختلف القطاعات، ما ضاعف من معاناة المواطنين، ودفع العديد من النشطاء إلى المطالبة بإحداث آليات جديدة لمحاربة الفساد بشكل عام، في ظل استمرار العديد من تجلياته، رغم الجهود المبذولة لوضع حد له، وأشار التقرير إلى أنه «ما زال المغرب يصنف ضمن البلدان التي تعرف استفحال هذه الآفة»، بل إنه لم يصل بعد إلى المستوى الذي يسمح بانتشاله من خانة الدول، التي ما زالت مجهوداتها في مكافحة الفساد «غير كافية وغير فعالة».

وخلال جلسة الأسئلة الشفوية التي عقدها مجلس المستشارين، خلال الأسبوع الماضي، طالب فريق الاتحاد العام لمقاولات المغرب بنشر التقارير التي تنجزها المفتشية العامة للمالية، وتعزيز شفافية الصفقات العمومية، وحذر الفريق من الكلفة المالية الثقيلة للفساد، التي تبلغ حوالي 50 مليار درهم.

وقالت نائلة التازي التي تدخلت باسم الفريق إن الحكومة السابقة فشلت في تنزيل استراتيجية محاربة الفساد، وطالبت بنشر تقارير المفتشية العامة للمالية للعموم، وأن تحظى الصفقات العمومية بالشفافية، كما طالبت برفع كل الحواجز التي تعيق المنافسة الحرة، وإصلاح الإدارة العمومية. وكشفت التازي أن الرشوة والفساد يكلفان البلاد قرابة 50 مليار درهم سنويا، نعم، واعتبرت هذا المبلغ يعادل تكلفة صندوق مكافحة «كوفيد- 19»، وإذا تم توفير هذه الأموال يمكن تحويلها إلى ميزانية تمويل مشروع تعميم الحماية الاجتماعية، الذي أعطى انطلاقته الملك محمد السادس.

وكشفت التازي أن المغرب تراجع في ترتيب مؤشرات محاربة الفساد والرشوة، حسب تقارير منظمة «ترانسبرانسي»، من المرتبة 73 في سنة 2018 إلى المرتبة 87 في سنة 2021، بينما دول أخرى كالإمارات العربية المتحدة فهي في المرتبة الأولى عربيا و24 عالميا، وأكدت أن مؤشر الشفافية له تأثير كبير على مؤشر الثقة في الاقتصاد الوطني والاستثمار، لأن المستثمرين يعتمدون بالأساس على هاته المؤشرات للحسم في اتخاذ قرارات الاستثمار.

وأوضحت التازي أن رغم إطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في سنة 2012، والتي ساهم الاتحاد العام لمقاولات المغرب بشكل كبير في تأطيرها، تبقى الإشكالية الحقيقية هي أن الفساد لا يزال منتشرا، والرشوة أصبحت شيئا عاديا وطبيعيا في جميع القطاعات، وهو ما يشكل عائقا أمام التنمية، وذكرت أنها قبل عامين، قامت بمُساءلة رئيس الحكومة السابق، سعد الدين العثماني، بشأن محاربة الفساد وَذكرته بأن حكومته التزمت أمام المواطنين بالقضاء على الفساد، لكنها لم تحقق الأهداف والوعود التي التزمت بها، واعتبرت أن الرقمنة ستكون بمثابة تدبير وقائي مهم، ولكنها غير كافية للقضاء على الفساد.

 

محاربة الفساد.. جهود حثيثة ونتائج متواضعة

 

دعت «الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها» في المغرب إلى ضرورة الانخراط في مرحلة جديدة لمكافحة الفساد، من أجل خلق دينامية مهمة في خدمة تنمية قوية وشاملة ومستدامة، في حين يسجل المغرب تراجعا في مؤشر إدراك الفساد، على الرغم من اعتماد المملكة توجهات لمكافحة تلك الظاهرة، حسب آخر تقرير للمنظمة لسنة 2021، والذي أشارت فيه إلى أن الدستور نص على آلية تشكيل لجان تقصي الحقائق، ومهمتها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة، أو تدبير المصالح أو المؤسسات والمقاولات العمومية…، وتنتهي مهمة كل لجنة لتقصي الحقائق فور فتح تحقيق قضائي في الوقائع التي اقتضت تشكيلها. كما نص الدستور على ضمانة استقلالية المجلس الأعلى للحسابات المكلف بمراقبة المالية العامة، عبر تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، بالنسبة إلى الدولة والأجهزة العامة.

وتم تخصيص باب كامل لمبدأ الحكامة الجيدة، إذ ينص الفصل 154 على أن المرافق العامة تخضع لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، والفصل 158 على إلزامية تقديم تصريح بالممتلكات للأشخاص المنتخبين أو المعينين، فيما ينص الفصل 159 على استقلالية الهيئات المكلفة بالحكامة. وأكد الدستور كذلك استقلالية مجلس المنافسة، المكلف بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية، من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق.

ونص الفصل 167 على إحداث الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، محددا مهامها في «التنسيق والإشراف وضمان تتبع وتنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، وقيم المواطنة المسؤولة».

وبعد إقرار المغرب بفشل نموذجه التنموي، اعتمد نموذجا جديدا في شهر ماي من العام الماضي، وهو ما اعتبره مختصون فرصة جديدة لمحاربة مظاهر الفساد، إذ أشار محمد بشير الراشدي، رئيس «الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها»، إلى أن المرحلة الجديدة في مكافحة الفساد يجب أن تقوم على مبدأ سيادة القانون، الذي يجعل من الشفافية والحكامة قواعد لا غنى عنها لتلبية الانتظارات المشروعة للمواطنين في إطار النموذج التنموي الجديد.

وسجل تقرير الهيئة وجود تراجع لمرتبة المملكة في مؤشرات عدة متعلقة بالحكامة، معتبرا أن الفساد ذو طابع نسقي ومزمن بالمغرب، وأن المواطن بشكل عام والمقاول والمستثمر الأجنبي لا يلمسون ترجمة فعلية للخطاب السياسي الذي يدين الفساد ويعد بمحاربته، وذلك على الرغم من القوانين التي يتم بلورتها، أو الهيئات التي يتم إقرارها، والالتزامات الدولية التي قطعها البلد على نفسه.

وأشار إلى أن «ذلك يرجع بالتأكيد إلى غياب إرادة سياسية حقيقية لمكافحة الفساد ببلادنا، فعلى سبيل المثال لا الحصر قد انقضت الآن ما يزيد على خمس سنوات على تبني الحكومة الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في المغرب، وكان من المفترض، بعد كل هذه المدة، أن نكون قد حققنا تقدما ملموسا في تنزيل مقتضياتها وتفعيل نحو 200 مشروع وإجراء في إطار برامجها العشرة».

وأوضح التقرير أن تلك الاستراتيجية ما زالت بعيدة عن التفعيل، بسبب ضعف الانخراط العملي للوزراء والمسؤولين الكبار في الإدارات، ما عدا بعض الاستثناءات، وبسبب شبه غياب لاجتماعات اللجنة الوطنية المخول لها متابعة الاستراتيجية، وعدم تجريم الإثراء غير المشروع، الذي يعتبر أحد الأسباب الرئيسية في تبذير المال العام. مضيفا أن هناك أيضا غيابا لقانون يجرم حالات تضارب المصالح التي يتم رصدها بشكل يومي، سيما في الصفقات العمومية، إضافة إلى عدم توفير حماية فعالة للمبلغين عن الفساد.

 

هل ستساهم الرقمنة في الحد من انتشار الفساد والرشوة؟

 

 

 

أفادت الوزيرة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، غيثة مزور، بأن الخط المباشر للتبليغ عن الفساد والرشوة، الذي أحدثته رئاسة النيابة العامة وانطلق العمل به يوم 14 ماي 2018، تلقى، إلى حدود 14 ماي الجاري، 67 ألف مكالمة بمعدل 100 مكالمة في اليوم، وأشارت إلى أن الخط المباشر للتبليغ عن الرشوة والفساد سجل، بعد ثلاث سنوات من إطلاقه، 217 عملية ضبط للمشتبه بهم في حالة تلبس بمعدل حالتين في الأسبوع تشمل موظفي القطاعين العام والخاص بكل جهات المملكة.

وفي السياق ذاته، ذكرت الوزيرة بأن البرنامج الحكومي وضع محاربة الفساد في صلب أولوياته من أجل تعزيز الثقة بين المرتفق والإدارة، مشيرة في هذا الإطار إلى أنه تم تحيين الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بما يسمح بالالتقائية والتدرج في بلوغ أهدافها، وقالت إن هذه الاستراتيجية تستهدف جعل الفساد في منحى تنازلي بصفة مستمرة، وتعزيز ثقة المواطنين، وتحسين نزاهة مناخ الأعمال وتموقع المغرب دوليا، وتحقيق 30 هدفا إجرائيا من خلال تنفيذ 203 مشاريع عبر ثلاث مراحل تمتد من 2016 إلى 2025.

وحسب الوزيرة، فقد تمكنت وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة من إعداد مجموعة من المشاريع المهيكلة الرامية إلى تعزيز الشفافية والنزاهة داخل الإدارات العمومية، من خلال إطلاق البوابات الإلكترونية للحصول على المعلومات «شفافية.ما»، و«شكاية.ما»، و«أوبن داتا» التي سجلت 33 ألف زائر من 130 دولة، مؤكدة أن هذه الآليات تسمح للمواطن بالحصول على معلومات من الإدارات في إطار من الشفافية.

وسبق للهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة أن قدمت خلاصة للأرضية المتعلقة بـ«الرقمنة.. رافعة للشفافية ومكافحة الفساد»، رصدت من خلالها المداخلَ الأساسية لجعل التحول الرقمي دعامة أساسية لتعزيز قيم النزاهة والتبسيط والقرب وتقليص الاحتكاك للحد من اللقاء المباشر بين المرتفقين وأعوان الإدارة المسؤولين عن تقديم الخدمات العمومية، بما يضمن تطويق بؤر انتعاش الفساد وتفاعله في مختلف الخدمات المقدمة سواء للمواطنين أو للمستثمرين وللمقاولة.

وجاءت التوصيات المنبثقة عن هذه الأرضية متمحورة حول ضرورة اعتماد منظور استراتيجي على مستوى القيادة وحكامة المشاريع والتوجه نحو المواطن، والنهوض بالإطار القانوني والمواصفات المعيارية، وتعزيز الرأسمال البشري والابتكار.

ووفق هذا التوجه، أكدت الأرضية، بالنسبة لمطلب القيادة وحكامة المشاريع، على أهمية الإشراف الاستراتيجي من المستوى العالي الذي يضمن تدبيرا ديناميا على مستوى رصد الأولويات وإدارة الوقت، كما يضمن الالتقائية الفعالة الكفيلة ببلوغ الأهداف المسطرة في هذا المجال، وعلى أهمية التعبئة الشمولية لجميع المعنيين، بهدف تحقيق الانسجام والتناسق والتكامل في المقاربة العامة للتحول الرقمي، وعلى ضرورة اعتماد منظور واسع ومقاربة شاملة وذات أهداف محددة وأولويات واضحة، ومسؤوليات مدققة، مقرونة بمؤشرات لقياس الإنجازات وأثرها على الفئات المستهدفة، مع ضمان الولوج إليها على نطاق واسع.

كما أكدت الأرضية، في السياق نفسه، على إرساء منظومة خاصة لحكامة مشاريع التحول الرقمي تسري على جميع المستويات الإدارية؛ مركزيا وقطاعيا ومحليا، واعتماد مقاربة تضع نصب عينيها إشراك المواطن في خدمة الشفافية المنشودة، من خلال توحيد القنوات ووسائل الولوج إلى الخدمات العمومية الرقمية وعقلنة استعمالها، ووضع المواطن في صلب الانشغالات المتعلقة بالديمقراطية الإلكترونية، وتسريع ورش تبسيط المساطر الإدارية، وتفعيل ميثاق المرافق العمومية، وتعزيز شفافية الميزانية، ورقمنة ونشر المعطيات المتعلقة بالحملات الانتخابية، وجعل الخدمات الرقمية فرصة لتخفيض التكلفة بالنسبة للمواطن ولباقي المرتفقين. وبخصوص النهوض بالإطار القانوني والمواصفات المعيارية، دعت الأرضية بشكل خاص إلى بذل المزيد من الجهد في تدبير الثقة الرقمية من أجل توفير الظروف الملائمة للمواطنين والمقاولات، وذلك بوضع آليات داعمة للثقة الرقمية كنظام التعريف الوحيد، ونظام إثبات صحة المستندات الإدارية المرقمنة، ونظام العناوين الإلكترونية المؤمنة، وتعميم التوقيع الإلكتروني وغيرها من العناصر لضمان منظومة رقمية آمنة.

كما أوصت الأرضية بتحسين توحيد البيانات واستخدام المعلومات داخل وبين القطاعات الحكومية ومكونات الإدارة العمومية، وبتسريع تفعيل المقتضى القاضي بعدم مطالبة المرتفقين بالإدلاء بوثائق أو معطيات تتوفر عليها إدارة أخرى، والاستفادة من التقاطعات في ما بين الإدارات لتحديد وتتبع أفعال الفساد واقتفاء أثرها، واعتماد ميثاق البيانات المفتوحة من أجل ضمان استمرارية هذا النهج وإدامته، ووضع خرائطية للمخاطر المرتبطة باستعمال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والأمن السيبراني، والتوجه نحو اعتماد شهادة الأمن السيبراني بالنسبة للمنصات الرقمية الموجهة للجمهور العريض، بالإضافة إلى تعزيز البنية التحتية الرقمية مركزيا وبتغطية مجالية واسعة لتقليص الفجوة في هذا المجال.

وبالنسبة لتعزيز الرأسمال البشري والابتكار، أوصت الهيئة بإعداد تصميم مديري يستهدف تنمية مهارات الأشخاص المتخصصين في المجال الرقمي، وتدريب الموظفين بعد تحديد الاحتياجات ذات الصلة بقدراتهم وقدرات المسؤولين، واستشراف سياسات محددة لإعادة تقويم القدرات وتطويرها والارتقاء بها. كما أكدت الهيئة على ضرورة تمكين المواطنين ذوي الدخل المحدود من الولوج إلى مراكز تدريب لتحسين المعرفة الرقمية، وتعزيز إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في برامج التكوين على جميع المستويات، إضافة إلى ضمان مراقبة اجتماعية وتكنولوجية من أجل تسهيل التطور الرقمي والتركيز على دوره المحوري في تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد.

كما أكدت التوصيات في هذا المحور على دعم البحث والابتكار، خاصة من خلال تشجيع التجارب والاختبارات النموذجية، واحتضان المشاريع المتطورة، وتعزيز التمويل الجمعي لمشاريع الابتكار الرقمي، وتطوير الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتوجه نحو استخدام التكنولوجيا الصاعدة، خصوصا الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، علما أن الابتكار من شأنه أن يدعم تجويد وتيسير استعمال الخدمات العمومية لضمان الولوج المنصف والمتساوي إليها من لدن جميع المواطنين. ولم يفت الأرضية أن تثير الانتباه، في الأخير، إلى أهمية النهوض بالتواصل والتوعية، خاصة من خلال تنمية الوعي العام بأهمية الخدمات على الخط، وتحفيز المواطنين على استخدامها، بما في ذلك المشاركة في النقاش العمومي، وتعزيز القوة الاقتراحية والانخراط في برامج ومشاريع النزاهة.

ثلاثة أسئلة

 

إدريس الفينا*

 

 

*أستاذ الاقتصاد بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي

 

 

«الفساد ظاهرة بنيوية ومحاربته تتطلب إرادة قوية»

 

ما الكلفة الاقتصادية والاجتماعية للفساد؟

تجب الإشارة إلى أن التجربة الدولية بينت أن جميع الدول التي حاربت الفساد، تمكنت من التقدم بسرعة كبيرة، بما فيها الدول الأوروبية وأيضا الصين والولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت أولى نقاط عمل رئيسها الحالي مباشرة بعد فوزه في الانتخابات، هي محاربة الفساد، وبالتالي فنقط الإصلاح وتسريع عجلة الاقتصاد وأيضا تسريع النمو، يكون مدخلها الأساسي هو محاربة الفساد، لأن الفساد معيق للنمو والتنمية في أي بلاد، على اعتبار أن تطوير الاقتصاد يتطلب جلب الاستثمارات، والاستثمارات لا يمكن أن توجد في بيئة تعاني الفساد، وحتى الاستثمارات الوطنية تتأثر وقد تغيب في المناطق التي تعاني من انتشار الفساد، فيما قد تزدهر في مناطق أقل فسادا. وهذا الأمر بالنسبة لي كان جليا من خلال دراسة كنت أجريتها لغرض علمي، توصلت فيها إلى أن الجهات من بين الجهات الاثنتي عشرة التي تستقطب استثمارات، هي الجهات التي لم يتم الإعلان فيها عن حالات فساد، والتي تم عمليا الكشف عنها، وهذا يعطي مؤشرا على أن الاستثمارات تتجه صوب الجهات التي يقل فيها مؤشر الفساد. هذه النتائج تهم الجانب الوطني فقط، وبالتالي فهذا الجانب عميق، والفساد، للأسف، مترسخ في المجتمع ومحاربته يجب أن تكون بنيوية كما هو بنيوي ومترسخ في المجتمع. تأثيرات الفساد متعددة، إذ يساهم في ظهور نخب غير كفؤة، خصوصا على رأس مؤسسات لها الدور الكبير في التنمية من شأنها أن يكون لها التأثير الكبير على جميع مناحي الدولة، وهؤلاء المسؤولون الفاسدون هم الذين يكرسون في ما بعد لانتشار الفساد الذي كان وراء تقلدهم تلك المناصب، خصوصا التمثيلية منها، وهذا يضعف أداء المؤسسات وأيضا الحكامة الجيدة في تلك المؤسسات ولا يمكن من أداء اقتصادي قوي والإمكانية لصنع قرارات جيدة.

هذا دون الحديث عن الكلفة الاجتماعية باعتبار أن التأثير متبادل بين المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وعلى اعتبار أن عدم القدرة على خلق الثروة بشكل كاف وكبير بغرض تطوير المناحي الاجتماعية، اعتبارا للفساد، ينعكس على هذه الوضعية التي تتأثر بشكل كبير، وهو ما قد نسجله في الوضعية الحالية.

 

ما مصير الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، وهل يمكن أن تؤتي أكلها في معالجة الظاهرة؟

هناك العديد من الهيئات سواء في المجتمع المدني أو المؤسسات الرسمية منها الدستورية، التي تحاول التقليل من حدة الفساد، غير أن الإشكال، في هذا الباب، هو أن ظاهرة الفساد ظاهرة بنيوية. وبالرجوع دائما إلى الدول التي تمكنت من القضاء على الفساد، نجد أنها اعتمدت وسائل ومقاربات واضحة، وهذه الدول يجب أن يأخذ منها المغرب النماذج على اعتبار أن كل تلك الدول منها من بدأت حربها ضد الفساد متأخرة عن المغرب وتمكنت من القضاء عليه وإن كان بشكل غير نهائي، مداخل قوتها أنها تمكنت من إضعاف الفساد فيها وتقوية الحكامة الجيدة والنزاهة والشفافية، وهذا الأمر مكن تلك الدول من تبوؤ مراتب متقدمة على مستوى العالم في جانب التنمية والانتعاش الاقتصادي، إذ لا يمكن أن تجتمع خصلتان في دولة واحدة بأن تكون متقدمة وفاسدة في الآن نفسه، على اعتبار أن التقدم وسرعة النمو يحصلان بالحكامة الجيدة كما ذكرت والنزاهة والشفافية والعدالة الاجتماعية، وأن تكون مؤسسات قوية على جميع المستويات، إلى جانب توزيع عادل للثروة، وهذا عكس الأسس التي يرتكز عليها الفساد على اعتبار أن الفساد هو شبكات مصالحية متحكمة.

 

هل من شأن ورش رقمنة الإدارة أن يخفف من الفساد في الإدارات العمومية؟

أعتقد بأن هذا الحديث عن إصلاح الإدارة من الأمور والأوراش التي طال الحديث فيها لسنوات ولازال يطول، في حين أن دولا جاءت بعد المغرب وتمكنت من إنجاز هذا الأمر، وهذا التعثر الحاصل لدينا، في هذا الجانب، مرده إلى كون الإدارة العمومية عصية على الإصلاح وعلى الرقمة بالتحديد، على اعتبار أن عددا من المسؤولين في الإدارة ليس من صالحهم التوجه صوب الرقمة من منطلق أن هذا الأمر سيتسبب في فقدهم لتلك العلاقة المباشرة بالمرتفقين، وبالتالي ما يمكن أن تترتب عنها من مصالح مباشرة أو غير مباشرة.

وهنا أذكر كيف أن عاملا في منطقة معينة راسل رئيس جماعة من أجل أجرأة منح الرخص عبر الموقع الرسمي، غير أن المسؤول الجماعي رفض هذا الأمر لما نعرفه من منافع يتحصلها المسؤولون في هذا الجانب. ففعلا الرقمة جيدة ولها دور، غير أنها لن تستطيع النجاح في وسط تغلب فيه ثقافة الفساد.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى