الفرقة الناجية
بقلم: خالص جلبي
كثيرا ما أسمع من متحدث متحمس أنه من الفرقة الناجية كما ورد في الحديث، وخلاصته أن النصارى واليهود انقسموا إلى عشرات المذاهب، وكذلك سينال هذا المرض المسلمين، الجميع في النار إلا فرقة واحدة ناجية. وحين يسأل الصحابة من ستكون؟ وكيف تعرف مواصفاتها؟ يكتفي بالرد أنه ما كانوا على طريقته وطريقة أصحابه من الصحابة. وبالطبع فالإغراء كبير دوما، وبشعور من التعالي، يحاول كل فريق من الفرقاء المتصارعين الادعاء بأنه على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك، وأنهم على الطريق المستقيم الذي لا ريب فيه. يقول نيتشه، الفيلسوف التنويري: من أراد أن يرتاح فليعتقد، ومن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل. وفي الحقيقة، ففي الأرض اليوم من يدعي تمثيل الإسلام «الحقيقي»، وأن نسخته هي الأصلية، كما أرادها الله تماما من دون تحريف أو تبديل، وأنه الممثل الشرعي الوحيد عنه سبحانه، وأنه وصل إلى سدرة المنتهى، وقبض على الحقيقة الحقيقية النهائية. صحيح أن شكله بشري، ولكن لسانه إلهي، وخطابه متعال، لا يمسه النقد ولا يقترب منه الخطأ، أو يمازجه الهوى ولحن الخطاب.
مهمته ليست الحوار، بل بث الحقائق اليقينية للعباد، فوجب أن يصيخوا السمع بأشد من الجان؛ فينقلبوا إلى أهلهم منذرين يقولون: إنا سمعنا كتابا يهدي إلى الحق وطريق مستقيم. وباستعراض النماذج المتناثرة بين أيدينا، يظهر طيف لا نهاية له من الألوان، يدعي منهم الكثير وصلا بليلى، وليلى لا تعرف عنهم إلا قليلا. هناك أولا عند جبال الهندوكوش نموذجان متباينان بين جماعة «طالبان» في أفغانستان، وجماعة «الدعوة والتبليغ» في الهند وباكستان. وفي أفغانستان نرى مرة أخرى التحام نموذج طالبان مع الحركة الوهابية السلفية والإخوانية القطبية بين «بن لادن والظواهري». ومع أن «الوهابي السلفي» ومن هو من «جماعة الدعوة والتبليغ» يستقيان من المصادر نفسها من «الكتاب والسنة»، ولكن الأولى رأت الحل في الحرب والضرب، ومفاهيم الولاء والبراء، ورأت الثانية أن الإصلاح الأخلاقي مقدم على كل علاج، كمن هو مصاب بفقر الدم فنعالجه بالماء. وبسبب هذا قال ابن تيمية قديما إن لكل واحد كتابه وسنته الخاصة به، بمعنى المفاهيم المنعكسة من الثقافة السائدة.
وفي يوم ادعى (حسن البنا)، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، أن جماعته تجمع كل الصفات في تنظيمه؛ فوصف حركته بأنها «دعوة سلفية، وطريقة صوفية، وفرقة رياضية، وهيئة سياسية، وشركة اقتصادية». ولكن السياسة استهوتها؛ فتورطت في العنف، واصطرعت مع عبد الناصر، وأنهى أفرادها حياتهم بين حبل المشنقة والمعتقلات الصحراوية والهرب إلى أوروبا والخليج. وحيث حلوا زرعوا أفكارهم ومشاكلهم مع النظام الناصري، فخدمهم عبد الناصر من حيث أراد القضاء عليهم.
وفي تركيا نمت يوما الحركة الصوفية (البكتاشية)، ومن عمودها الفقري نشأت الانكشارية، حتى تحولت إلى مرض ينخر كيان السلطنة العثمانية، فنحرهم السلطان (محمود الثاني) فلم يبق منهم أحد. وعندما وصل الإسلام إلى الفرس تبنوا المعارضة، فأصبح الإسلام توأما كما يقول توينبي، المؤرخ البريطاني، سني وشيعي أو هكذا سموا أنفسهم. وكل حزب بما لديهم فرحون. وهو أمر يدخل إلى اللاوعي ولا علاقة له بالفهم، فهي آليات نفسية وتاريخية، ولكن فهمها أصعب من قص الأنف بالمنشار ومن دون تخدير. وفي يوم أعجب ناشر في الأردن بطرحي لمشكلة اللاعنف، وتفكيك مفهوم الجهاد في الإسلام، فوعدني بنشر ما كتبت؛ فلما أرسلت إليه كتابي رفض النشر قائلا: صحيح أنك استخدمت الآية والحديث، ولكنك لم تكن على منهاج أهل السنة والجماعة. وهنا اكتشفت مرجعا أقوى من القرآن والسنة اسمه «منهج أهل السنة والجماعة». وكان (ابن تيمية) محقا في فهم المشكلة بأن كل إنسان عنده قرآن وسنة خاصة به، وهذا هو سر نمو الملل وانتشار النحل.
اجتمع رجلان من المذهب نفسه، فقال أبو حمد لصديقه: فلنحمد الله على العقيدة السليمة الكاملة غير المنقوصة التي أنعم الله بها علينا. رد أبو صالح: نعم .. نعم إنها نعمة كبيرة ومنة جليلة.. قال أبو حمد: ولكن للحقيقة فإن المسلمين أيضا بخير، فنحن نسمع عن إسلام 4000 من الألمان في سنة واحدة يدخلون الدين الحنيف. قال أبو صالح: هي حقيقة، ولكن يا أبا حمد فلنكن صريحين؛ فإسلام هؤلاء الألمان ليس مثل إسلامنا، أليس كذلك؟ قال أبو حمد بعد تردد: ربما .. وقد يحسن إسلام أحدهم؛ إن هو تفقه على المذهب الصحيح، على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب آل البيت. قال أبو صالح: هل تريد الحقيقة؟ قال أبو حمد: نعم وما هي؟ قال أبو صالح: الحقيقة أن الإسلام الحقيقي لا يوجد إلا في بلدنا والحمد لله، أما بقية المذاهب والفرق، ومن اعتنق الإسلام من الألمان والطليان والأمريكان فاخرطي. قال أبو حمد: نعم .. نعم.. فالحقيقة الحقيقية النهائية هي عندنا، قال أبو صالح: ولكن يا أبا حمد ألا ترى أيضا أن هذه المدينة الطيبة التي نعيش فيها ليست كلها صلاحا، بل خلط أهلها عملا صالحا وآخر سيئا؟ قال أبو حمد: نعم، إنها حقيقة والله يا أبا صالح، فقد كثر الخبث والمنكرات، والموبقات يفعلها البعض، فليست مدينتنا تلك الطاهرة الفاضلة على سنن الصالحين وآل البيت المطهرين وأهل السنة والجماعة. ولكن أين إذا مكان الصلاح والتقوى يا أبا صالح؟ حقا إن الأمر محير.. رد أبو صالح بحزم التمعت معه عيناه: الدين الصحيح هو فقط في حارتنا. قال أبو حمد بحماس: إنها والله كبد الحقيقة.. نعم .. نعم يا أبا صالح .. الحمد لله على هذا الحي الطاهر الذي نسكن فيه. لم يترك أبو صالح أبا حمد يتمتع بالحماس؛ فالتفت إليه وفي وجهه ألف معنى ومعنى وقال: هل تريد أن أكذب عليك يا أبا حمد، أم أصارحك الحقيقة؟ اضطرب أبو حمد من كلام وتعبيرات أبو صالح، وقال بشيء من التردد: لا بل أريد الحقيقة فليس مثلها نصيحة.. قال أبو صالح: الحقيقة إنني أيضا بدأت أشك في عقيدتك، فلا أظنها أنها بتلك النقاوة على مذهب آل البيت وأهل السنة والجماعة…