شوف تشوف

الرأي

الفرد ضد الدولة

عبد الإله بلقزيز

لم يكن المجتمع وحده الذي تبدى، لدعاة الليبرالية الفردية، عبئا ثقيل الوطأة على الفرد وخطرا محدقا بحريته واستقلاله وسيادته الذاتية، بل الدولة نفسها باتت رديفا له في الأخطار على حريات الأفراد وحقوقهم؛ على نحو ما بات يردده الخطاب الليبرالي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وما من شك في أن جذور هذه النظرة الارتيابية إلى الدولة، نجدها ثاوية في فلسفة العقد الاجتماعي نفسها: عند جون لوك وإيمانويل كَنْت؛ وهي ناجمة، في المقام الأول، من تغليب منظومة الحقوق الفردية والحريات، في النظر إلى الاجتماع السياسي، على منظومة الحق العام والسيادة الشعبية.
قامت الدولة الوطنية الحديثة، في هندستها الكيانية، على توازن دقيق بين الشعب والفرد؛ بين منظومة السيادة الشعبية، التي عليها مبنى مشروعية السلطة، ومنظومة الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين. والتوازن هذا حصيلة جَمْع بين فكرتين للسياسة، تزامنتا في التعبير عن نفسيهما في القرنين السابع عشر والثامن عشر: فكرة الدولة السيدة وفكرة الفرد الحر. ولم يكن ممكنا مقايضة هذه بتلك، أو الاعتياض عن هذه بتلك، من غير الإضرار بالدولة والفرد معا. ليس التوازن هذا واضحا إلا عند قليل من الفلاسفة والمفكرين (سبينوزا، مونتسكيو، روسو، هيغل)، لكن نظام الدولة الحديث اقتضاه وقام عليه. غير أنه سرعان ما بدأ يبدو توازنا مختلا لغير صالح الفرد وحريته لدى ليبراليي القرن التاسع عشر؛ الذين عبروا – بتفاوت – عن أفكار جديدة تراجعت عما استقر عليه المعتقد الليبرالي في القرن الثامن عشر.
لذلك التراجع أسبابه التي تفسره من غير أن تبرره على وجه الضرورة؛ وهي سياسية موضوعية؛ تجربة الثورة الفرنسية وتغليبها مبادئ السيادة الشعبية والمساواة على الحرية؛ الخيبة من نظام السلطة المركزي الذي اقترن بالثورات والتوحيد القومي في أوروبا؛ تنامي الوعي بأزمة التمثيل في النظام السياسي الديمقراطي واحتكار قلة له سرعان ما توصف بأنها غالبية…إلخ. غير أن هذه العوامل، مجتمعة، لن تكون تأثيراتها ذات شأن كبير مقارنة بالتغيرات الهائلة التي سيشهد عليها قسم من دول أوروبا وأنظمتها السياسية، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. لذلك سنشهد، بدءا من عشرينيات القرن العشرين، على طفرة جديدة من النقد الحاد لنظام الدولة الوطنية ولتدخل الدولة في حياة الأفراد وحقوقهم من قِبَل جيل من الليبرالية جديد بدا (= أي النقد) أشد حدة وأبعد مدى في تعليل أسباب الخلل في نظام الدولة ذاك.
زاد من هذه الحدة في النقد صعود الحركات الاشتراكية في أوروبا، ونجاح أول سلطة شيوعية في القيام بروسيا، مع ما عناه ذلك من تقييد شديد للحريات، ومصادرة لحق التملك الفردي ومن محاصرة، بالتالي، لليبرالية فكرا ونظاما اجتماعيا. ثم ما لبث رسوخ نفوذ ستالين والستالينية في الاتحاد السوفياتي وبنائه نظامَه القمعي، وقيام النظام النازي في ألمانيا وتوسعه في المحيط الأوروبي أن فاقم من الشعور بالخطر الذي بات واقعا على الأفراد وحرياتهم من الدولة. وليس من شك في أن نموذج النظام الكلاني، الذي قام في ألمانيا النازية وروسيا الستالينية واستتب وفرض أحكامه، نظام يجاوز حدود الاستبداد والديكتاتورية، لأنه لا يصادر الحقوق العامة فحسب، والسلطةَ والسياسةَ فحسب، بل يصادر الحياة الخاصة أيضا، ويتدخل في أدق تفاصيلها. ومن الطبيعي، في مثل هذه الحال، أن يلحق الفرد وحريته من هذا النظام مصاب كبير، وأن يتهجس الخطاب الليبرالي بأوضاعه أكثر من ذي قبل.
صحيح أن الليبرالية، جملة، ما كانت ترى في الدولة أكثر من حاجز يقيد فاعليتها وطموحها الدائرين على فكرة الحرية المفتوحة، غير المكبوحة بأي كوابح؛ وتلك، مثلا، حال الليبرالية الاقتصادية. غير أن هذا المعتقد العميق فيها لم يكن يمنعها – في الكثير من الأحيان- من ملاحظة الحاجة إلى الدولة؛ وخاصة حينما فتحت الدولة، بجيوشها، الحدود أمام الغزو الاقتصادي الرأسمالي للعالم، وبالتالي أمام تمتين سلطان الليبرالية الاقتصادية في الداخل، ومعه سلطان الفرد والحريات الفردية. غير أن الأمر يختلف مع نشأة ظاهرة الكلانية. إن عودة إلى كتابات حنة أرندت عن النظام الكللاني (في ألمانيا وروسيا الستالينية) تكفي لتُطلِع المرء على الهواجس الجديدة لدى المدافعين عن الفرد والحرية، في تلك اللحظة المفصلية من تطور الدولة الوطنية، وعلى الأسباب التي حولت الدولة، في بعض الخطاب الليبرالي، إلى وحش كاسر يفترس الفرد ويؤدي وظيفة تدمير الوجود الإنساني، بل تدمير الحياة أو التهديد به (مع انتشار السلاح النووي في أوروبا). لقد وضعتِ الكلانية في السياسة والدولة، بارتكاباتها وفظاعاتها المهولة، مبررات جديدة أمام هؤلاء المدافعين، للقدح في الدولة وتحميلها مسؤولية العدوان على الأفراد وحقوقهم وحرياتهم. والحق أن النظام الكلاني لم يعتد على الأفراد والحريات فحسب، بل اعتدى على صورة الدولة نفسها وحملها تبعات جرائمه!
من التشنيع على المجتمع إلى التشنيع على الدولة، قطعت إيديولوجيا الفرد شوطا أسست فيه، نظريا، لموجة ثانية من الفردانية لن تلبث أن تتعاظم وتفشو، على أوسع النطاقات، مع العولمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى