شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الفردانية والمقـدس الاجتماعي              

كل تفكير في القيم، اليوم، يواجه جملة من الإشكاليات تفرض نفسها في صورة ثنائيات تُداخِلُها علاقات توتر وتجادل (= من الجدل). أو يبدو حدا الواحدة منهما على طرفي نقيض، من قبيل إشكاليات الفردانية والمقدس الاجتماعي؛ الثبات والتحول في منظومات القيم؛ الهويـة والانفتاح بما يدخل في ذلك من جدلـيات من نوع جدلية المحلي والكوني؛ ناهيك بما بتنا مقبلين عليه من إشكاليات جديدة غير مألوفة، في تاريخ الفكـر الأخلاقي، بل في تاريخ الفـكر الإنساني جملة، من قبيل الإنساني وما بعد الإنساني (أي الآلي) وسوى هذه من المسائل الشديدة الإعضال…

مقالات ذات صلة

ما من شك في أن أكثر ما يواجه منظومات الأخلاق والقـيم في مجتمعات هذا العصر كافة، هو ما قـد يستولي على أي مجتمعٍ من تناقض بين ما صار فيه في حكم المقدس الاجتماعي، وما أسفـر فعل جمهرة فيه عن ميل جارف إلى خـرق العادة والمعهود والمألوف. وإذا كان ما هو جمعي من إنتاج المجتمع، أو من موروثه، أو مما هو من الموارد التي يتداولها ويتمثـل بها العالم والأشياء من حوله، بل ويُبْـرِم العلاقات البينية فيه في ضوء ما تقضي به أحكام ذلك الجمعي من القيـم…، فإن ما ينتقض به ذلك الجمعي، أو مما يخدش فيه فينال، بالتالي، من كونه جمعيا ومحط تواطؤ هو ميل الفرد/الأفراد إلى انتحال قـيم مخالفة والتعبير عنها وبها من داخل النظام الاجتماعي عينه. وليست المشكلة، هنا، في أن فعلا من التمرد والانتهاك أطل برأسه واخترق حرمة جماعية، بل في أن الفعل هذا قد يتمادى في تطاوله على مـقام النظام القيمي الجماعي فيستـدر، مع الزمن، ردود فعل متجاوبة تتكثر ويعظم أثـرها إلى حد يصبح فيه المجتمع مسرحا لصراعٍ مفتوح بين القـيم، أي بين قـوى من المجتمع عينه لا تجتمع على نظيـمة واحدة منها.

ينبغي أن لا يساء تقدير خطورة مثل هذا الاصطدام المحتمل (بين الفرد والمجتمع) على مجمل النظام الاجتماعي؛ إذ القيم – والقيم الأخلاقـية على وجه خاص – من أشد مسائل العلاقات الاجتماعية حساسية في المجتمعات؛ في كـل الأمكنة والأزمنة، وأكثرها قدرة على التحول إلى طاقة تفجير. هذه حقيقة أُدْرِكت منذ زمن قديم وأُخِذَ بها، والمثال على ذلك ما كانت تسلكه الإمبراطوريات القديمة تجاه الشعوب والبلدان التي كانت تسقط تحت قبضة جيوشها الغازية؛ كانت تعليمات أباطرتها إلى قـادة جيوشها وإلى حكامها على تلك الأقاليم صارمة بعدم المس بالعوائـد والأعـراف والتـقاليد والقيم السائدة في تلك البلاد. أما الدواعي إلى سلوك هذا المسلك فلا يحتاج بيانها إلى كثير شرحٍ، لأن سوابق التاريخ أقامت عليها فائض الأدلة؛ حيث أقصر سبيل إلى استـثارة حمية شعب أو مجتمع، ودفعه إلى أن يَعْصَوْصِب ويثـور ثأرا لنفسه، هو النيل مما هو في حكم المقدس عنده: وفي جملته قيمه.

ليس شرطا أن تكون قـيم مجتمعٍ ما نابعة من مصدر ديني حتى ينشأ في ذاك المجتمع مقدس اجتماعي؛ إذ المقدس هو كل ما رسخ من أفكار أو قيم في الذهنية العامة وفي السلوك الجمعي، فتماهى مع الكينونة الذاتـية الجمعية وصار قرينة على الهويـة والأنا الجماعيـتين، وبالتالي بات الخروج عليه أو انتهاكه اعـتداء سافرا على الحميمي في الذات الجماعية، أي على ما هو فيها في حكم الحرام أو المتمتع بحرمة تستدعي الاحترام والتوقير. المقـدس الاجتماعي، بهذا المعنى، هو كل ما كان موطـن إجماع من الجماعة؛ أكان مصدره من الدين أو من الأعراف والتـقاليد… إلخ، لذلك فإن المقدسات الاجتماعية، هنا، مثلها مثل المقدسات السياسية في الدولة الحديثة (السيادة، الدستور، القانون…) منطقة محظورة على أفعال الانتهاك؛ لأن انتهاكها عدوان على الجماعة (المجتمع، الدولة)، بل بغي وخروج ومروق. هذا ما يحملنا على التنبيه على المغبة من استصغار شأن الصدام بين منطقين: الحرية والنظام، الفرد والمجتمع… حين يكون موضوعه وساحُه (أعني الصدام): القـيم الاجتماعية.

ما يزيد من مخاطر ما أشرنا إليه، وبالتالي من ضغط الإشكالية على الفكر والمجتمع معا، وربما من صعوبة طرقها على نحو موضوعي أن طفرة هائلة في معنى الفرد والفردية والحرية حصلت، وما زالت تحصل، في هذه المرحلة الجديدة من التاريخ التي دشـنتها العولمة. اجتمعت أسباب عـدة – اقتصادية وسياسية وثقافـية – لتدفع بفردية الفرد نحو أقصاها. ما عادت هناك من حدود، قانونية أو عرفـية أو قـيمية، لتلك الفردية المحاطة بالحدب والرعاية من النيوليبرالية ومؤسساتها. وما عادت المجتمعات والدول تملك أن تحد من جموح فردية منفلتة من كل عـقال، لأن تدخلها ذاك بات معدودا في خانة انتهاكات حقوق الإنسان التي تـقابلها إجراءات عقابية من المؤسسات الدولية، قـد تكون قاسية أحيانا. هكذا نُـلْفِي أنفسنا أمام مشهد جديد من التجاذب الحاد بين الفردانية، المندفعة بجنون غير مسبوق، والمبدأ الاجتماعي الذي يدافع عن نفسه، في تجليه المادي (= المجتمع)، في وجـه هـذا التسيب الفرداني الذي يهدده بالانفجار؛ التسيب الجاري مصحوبا بدعوات نكراء من قـبيل: نهاية الدولة، ونهاية المجتمع!

 

عبد الإله بلقزيز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى