الفجوة بين الفكرة والتطبيق
عبد الإله بلقزيز
هل تجري الأشياء في العالم الإنساني بموجب قوانين عمياء؟
بين الفكرة والتطبيق فجوة تشبه أن تكون دائمة وثابتة. تفرض نفسها، باستمرار، كما لو أنها قانون لا يرتفع. وإنْ هو ارتفع، يكون ذلك في النادر من الأحوال فلا يُنْتَقض، حينها، ما هو في حكم القانون.
وهي (أي الفجوة) إنما تعبر عما بين الرغبات والواقعات من مسافات موضوعية لا يدركها النظر ولا الوجدان لحظةَ التصور أو لحظة الحلم بتحقيق الشيء. أما ما يملأ مسافات الفراغ تلك بينهما فأحكام التطور التاريخي التي ليست قابلة، دائما، للتحكم في مُجْراها ومُرْساها؛ لأنها ليست محكومة بمبدأ الفكر أو الإرادة، بل بمبدأ الواقع الموضوعي.
ليس في الأمر تبرير للفجوة هذه أو تسويغ، إنما توصيف لها وتحديد للعوامل التي تصنعها. ولقد يُسْتَدرَك، هنا، بالتساؤل المشروع: وأين الذّات الواعية الفاعلة، أين الإرادة؟ هل تجري الأشياء في العالم الإنساني بموجب قوانين عمياء لا دخل للإنسان – فاعلِها- فيها؟ نجيب: الإرادات محكومة بالممكنات، أما غير الممكنات فمِن فعْل عوامل خارجة عن الإرادة، وهامش التدخل فيها ضئيل. بعبارة أخرى؛ إذا كان يسَع الإرادة أن تصحح حال الفجوة والفراغ – وهي تستطيع قطعا- فهي لن تبْلغ بالتصحيح إلغاءها كفجوة، بل الحد من رقعة اتساعها. الفجوة قائمة ما دام ليس هناك من تطابق كامل بين الفكرة والواقع.
هذه حقيقة واقعية محسوسة قبل أن تكون معطى ذهنيا أو استنتاجا نظريا؛ يعيشها الفرد الواحد مثلما تعيشها الجماعة الاجتماعية أو الأمة أو الدولة؛ يعاين فيها الفجوة بين ما يأمله ويسعى فيه وما يتحصله من نتائج. هكذا يشعر الفرد الواحد منا، دائما، أن مكاسبه من الأشياء دون ما تطلع إليه بأشواط؛ يشعر الفلاح بالبون المتسع بين ما أنفق من بذر وعمل وما حصد من زرع وثمر؛ يشعر العالِم في مختبره بالفجوة بين فرضيات يسوقها واختبارات لا تؤيدها؛ ويشعر المخطط العسكري بالفجوة بين مسار افتراضي للمعارك رسمهُ لها واتجاهات أخرى لها في الواقع؛ وتشعر دولة بالمسافة التي تفصل فكرتها عن التنمية عن المعطيات التنموية التي أنجزتها؛ ثم يشعر الناخبون بالخيبة من الفجوة الرهيبة بين وعود الحملات الانتخابية وما تقوى النخب الفائزة في الاقتراع على تحقيقه من نتائج متواضعة…
يقع للأمم والحضارات ما يقع للأفراد في هذا الشأن. يُقدم مفكروها وفلاسفتها وعلماؤها رؤى رفيعة إلى مستقبل أمثل، فتأتي سياسات دولهم – وهي تستلهم تلك الرؤى – مخيبة لها، وأحيانا، مجذفة عكس تيارها! أوروبا عصر الأنوار ومآلاتها من أمثلة ذلك التجافي الذي استوى بين ما تشوفت إليه رؤى المفكرين وما ساقت إليه سياسات الدول من مساقات. بل هي – من غير تزيُّد – حالة دراماتيكية بامتياز؛ لأنه لم يقع فيها تجاف، فحسب، بين تراثها الفكري العظيم وسياساتها النقيض، بل بدا كما لو أن التطبيق السياسي أتى يشكل نقضا إجماليا لمعظم ذلك التراث الأنواري، وللقيم العليا التي أرساها وألح عليها وتطلع مفكروه الكبار إلى صيرورتها وقائع مادية ومؤسسات وعلاقات في الواقع الإنساني.
نستدرك بالقول إن بعض تلك القيم الكبرى وجد له شكلا ما من أشكال التحقيق المادي، فصار واقعا اجتماعيا يحياه الناس ويتمتعون بجزيل ثمراته؛ ومن ذلك التوحيد القومي للكيانات المجزأة بين دويلات وإمارات؛ والنظام الدستوري وسلطة القانون والحريات؛ والنظام الديمقراطي؛ والتنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ والعقلانية الاقتصادية والإدارية؛ وتقدم نظام الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية وأنظمة التأمين الاجتماعي ونظام التعليم… وهي، بالجملة، مكتسبات ذات قيمة عالية في التطور الإنساني: الأوروبي والعالمي. غير أن هذه جميعَها وجه من الصورة وليس كل الصورة؛ إذ حَايَثَتْهَا واقترنت بها معطيات نقيض رَسَمَتِ الوجْهَ الثاني، الكالح، من الصورة.
مَن من الموسوعيين الأنواريين تصور أنْ سينقلب مبدأ الحرية في أوروبا ليُنجب نقيضه: الاستعمار واستبعاد الشعوب؟ مَن منهم دار بخلده أنْ سَتَلِدُ العدالة استغلالا للطبقات الكادحة ونهبا لثروات المستعمرات؛ وأنْ سيُسفِر مبدأ التسامح مع الآخر عن حال نقيض يصير فيها إنكارا وتعصبا وكراهية ونظرة دونية وسعيا إلى فرض القيم الذاتية عليه باسم الكونية؟ مَن منهم تخيل أن ستتحول الحرية الاقتصادية (= الليبرالية) من منافسة إلى احتكار، والاشتراكية إلى كلانية (= توتاليتارية)، والسلم الإنساني إلى حروب عدوانية ظالمة، والتعاون والشراكة الإنسانيين إلى هيمنة، والنزعة الإنسانية (= الإنسانوية) إلى عنصرية عرقية وثقافية ودينية؟… ما من أحد منهم تصور، أو توقع، أن تكون أيلولة ذلك الميراث العظيم من الأفكار والقيم والمبادئ إلى نقضه والدوس عليه والتنكر له بعد مائة عام أو يقل!
فجوة هي، إذن، بين أوروبتيْن، بين غربيْن؛ بين غرب ثقافي وغرب سياسي، وانقضاض للثاني على الأول وتحلل منه. ولكن من حسن حظ الغرب الثقافي أنه حي أبدا ومترصد، بعين النقد والرقابة، للغرب السياسي وأخطائه. لذلك هو لم يتوقف، منذ بدايات القرن التاسع عشر، عن نقد تلك الأخطاء، وبيان تهافتها ولا إنسانيتها ونزع الشرعية عنها. يحاكمه بالمبادئ، بالمرجعية الأنوارية التي وحدها نشدت الكونية نشدانا ولم تتشرنق على نفسها في قفص المركزية الأوروبية والغربية.