الغرفة 101
حسن البصري
كتب لي أن أتابع من «ستاد القاهرة» مباراة الديربي المصري في بداية التسعينات، لم تكن حركة «الألتراس» قد غزت المدرجات العربية بعد، كان التشنج حاضرا في المنصة الصحفية بين صحافة الزمالك والأهلي، وكان الحرس المصري يتدخل لفض النزاع، وحين سجل الأهلي هدف السبق انتفض من حولي ثلاثة صحافيين وقدموا وصلة رقص نكاية في زملائهم الزملكاويين. لحسن الحظ أن المباراة انتهت بلا غالب ولا مغلوب.
حين كنا نهم بمغادرة المنصة كان صوت معلق تلفزيوني مصري يواصل الحديث عن الروح الرياضية التي ميزت المباراة وكيف نزل التكافؤ بردا وسلاما على المدرجات، وهو يحاول تقديم شهادة حسن السيرة والسلوك لمباراة تطايرت شظاياها طيلة زمن المواجهة.
حين غادرت الملعب شاهدت الصحافيين المتنازعين يتناولان «كباية لمون» في مقصف الملعب، فركت عيني لأتأكد من المشهد، وأنا أسترجع الشتائم التي دارت بينهما والتي وصلت حدود عتبة البيت.
لكن رغم أن كرة القدم المصرية تدور في فلك الأهلي والزمالك، ورغم أن الصدام الكروي للقاهرة يحولها إلى مدينة مقهورة، بسبب ارتفاع مؤشر الاحتقان ليصل الدرجة الحمراء بتعبير منظري الكوارث الجوية، إلا أنه يختلف كثيرا عن ديربي الدار البيضاء.
صدام القاهرة إفراز لتعصب سياسي وتاريخي وطبقي، حيث كان ينظر للزمالك باعتباره فريق الطبقة النبيلة، فيما صنف الأهلي في خانة نادي الشعب. أما الصراع بين الوداد والرجاء فلا دخل فيه للطبقية، لأن الفريقين معا ولدا من رحم معاناة الطبقة الشعبية.
الآن وعلى خلفية مذبحة بور سعيد، أصبح الحضور الجماهيري في مدرجات الديربي أمرا يخص وزارة الداخلية، التي تحدد عدد الجمهور وملعب المباراة وتنتدب حكما أجنبيا للمواجهة، وتمنح حقوق النقل لمن تريد، الاختصاص الوحيد الخارج عن إرادتها هو نتيجة المباراة.
الديربي البيضاوي مختلف تماما عن نظيره المصري، فهو محشو بالإثارة مسلوب الإرادة لا يتحكم فيه وزير الداخلية أو وزير الرياضة، أو حتى المدرب واللاعب والحكم فهم مجرد قطع من أثاث المواجهة الصاخبة.
إذا كان الكاتب البريطاني جورج أورويل من أوائل الكتاب الذين تنبؤوا في أعمالهم بالمصير الذي سيؤول إليه عالمنا، وهو الذي قرأ كف العالم في روايته الشهيرة 1984، وخصوصا الفصول التي تدور حول «الغرفة 101»، التي استلهم منها «ألتراس غرين بويز» فكرة «تيفو» المواجهة الأخيرة بين الغريمين، إلا أن التكهنات المستقبلية تقول إن الفرجة ستنتقل من المستطيل الأخضر إلى المدرجات.
لقد تبين أن «الكلاشات» الحقيقية بين الوداديين والرجاويين تأتي من المدرجات، قبل أن تهز الأقدام الشباك، وأن بؤرة التوتر الحقيقية الآن هي «الفيراج»، حيث يصر كل فصيل على اختراع «تيفو» قادر على رفع الضغط الدموي لغريمه، مع تقديمه في صورة جمالية تجعلك تصرف النظر عما يجري في الملعب.
بطل رواية «1984» كان صحافيا واسع الخيال، مات بعد 202 يوم عن صدور روايته التي تتحدث عن زنزانة باسم «الغرفة 101»، تمعنوا في الرقم 202 إنه ضعف رقم الغرفة، يا لسخرية القدر. مات الرجل الذي تكهن وهو في الأربعينات بما سيحدث في الثمانينات.
ما نخشاه هو أن يأتي يوم نتفرج فيه على «مباراة» الفيراجين الجنوبي والشمالي، ثم نغادر الملعب دون أن ننعم بأطوار المباراة، أو أن يعلن فصيل عن عرض لأشهر تيفوهاته في ملعب دون مباراة، وقد يخصص مدخول العرض الفرجوي لضحايا المدرجات.
ما يجمع بين الروائي جورج والمتحكمين في لوحات المدرجات، هو كراهيتهم للسلطة للأحزاب للمسيرين للمنظمين وللفوضويين، لكن بجرعة حقد زائدة يكون لها مفعول في أجساد الغريمين فلا يسلم الديربي من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم، وحين تسقط أرواح المغرر بهم تشيع جثامينهم بطقوس الشهداء ويتقبل الأهل التعازي بعبارة: «عداؤنا» واحد.