انتشرت أخيرا مقاطع فيديو لمواطنين أمريكيين وهم يتجولون في الشارع العام مرتدين نظارات من نوع خاص. نظارات VR الرقمية، وهي عبارة عن أجهزة إلكترونية، توفر للمستهلك خدمة السفر عبر العوالم الافتراضية، حيث يستطيع الإنسان السفر إلى المالديف وهو يتسوق من بقالة الحي، أو يمارس الغطس في أعماق الشعب المرجانية للبحر الأحمر وهو ينتظر دوره لدفع الضرائب. تمنح النظارات الافتراضية لصاحبها تجربة فريدة ومبتكرة، لكنها تظل تجربة مخيفة نوعا ما.
لقد تغولت العوالم الرقمية الموازية وبسطت سيطرتها على الواقع. نتذكر جميعا كيف آمنت البشرية، بداية تسعينيات القرن الماضي، أن الأنترنت سيجعل العالم قرية صغيرة، لنتفاجأ، وبعد ثلاثة عقود من هذا الاعتقاد الساذج، أن التكنولوجيا ما هي إلا وسيلة تمويه وأن القرية الصغيرة تحولت إلى الغرفة 101.
يبدو أن الواقع الديستوبي، الذي تنبأ به جورج أورويل قبل أزيد من سبعين عاما، تحول إلى حقيقة فعلية. تنبؤات أورويل تفوقت في بشاعتها على تنبؤات نوستراداموس أو تكهنات «ليلى يا لطيف». لم يكتف الكاتب الإنجليزي العظيم، والذي اتهم لاحقا بأنه عميل سري لصالح المخابرات البريطانية، باستشراف المستقبل التكنولوجي الذي ستعرفه البشرية، بل تحدث، في روايته الشهيرة “1984”، عن الأساليب والحيل التي ستستخدمها الحكومات والمؤسسات العسكرية والمالية الضخمة للسيطرة والتلاعب بالعقل الجمعي للبشرية.
الغرفة 101 كانت من أخطر وأكثر النبوءات الأورويلية إثارة للجدل. لقد نجح الرجل في تصوير أسوأ ما في الإنسان عبر حشره في زاوية الخوف. إن المطلع على فصول هذه الرواية الكلاسيكية يلمس كيف أن الخوف كان ولازال وسيظل المحرك الرئيسي للغريزة الإنسانية، إذ تهاوت كل قيم الحب والأبوة وأواصر الرحم أمام الخوف البشري. فكيف أصبحنا اليوم محتجزين في الغرفة 101 في مواجهة أسوأ مخاوفنا وأكثر كوابيسنا رعبا؟
في الماضي القريب حاولنا الهروب من قسوة الواقع نحو العوالم الافتراضية التي منحتنا إحساسا بالحرية والانعتاق من قيود المجتمع الصارمة، إذ منحتنا الهويات المزيفة، مثلا، مساحة حرية نستطيع التعبير من خلالها عن آرائنا في السياسة والدين والجنس وباقي الطابوهات المسكوت عنها في الواقع. قمنا بعملية فرار جماعي من الأحكام المسبقة للعالم الواقعي إلى أرض رقمية تمنحنا الحق في أن نكسر حواجز الخوف والصمت، غير أن تلك الحرية المزيفة، التي أغرتنا بها التكنولوجيا، لم تكن سوى طعم ألقت به لنا «وزارة الحب» لنبتلعه بسذاجة. لقد قامت الحرية بإغوائنا واستدراجنا بسهولة نحو غرفة التعذيب والتمويه، حيث أصبحنا اليوم سجناء منزوين في غرف المواقع الرقمية والتطبيقات الافتراضية.
تحولت البشرية إلى مجموعات ضخمة من العبيد المقيدين بأغلال غير مرئية. عمليات تعذيب نفسي فظيع وأساليب تلاعب عقلي مكثف، تلك التي تمارس علينا في غرف الانستغرام والتيكتوك والفيسبوك، أو مقاصل ماسك وبيزوس. لقد تم إلقاؤنا بلا رحمة في زنازين باردة فارغة، يتردد بين حيطانها صدى الخوف والأحكام المسبقة. زنازين يحرسها نوع مختلف من السجانين، إذ تقف على أبوابها جحافل من الكائنات الرقمية المرعبة التي تطاردنا بالأخبار المزيفة، وتمطرنا بالإعلانات الكاذبة أو تقودنا خلسة إلى صناديق الاقتراع، أو تزعزع ثقتنا بأنفسنا من خلال استعراض موديلات حياة افتراضية وهمية.
من الملاحظ أن الإنسان الحديث أصبح في مواجهة دائمة مع الخوف. تشاهد، وأنت قابع في الغرفة 101، مؤثرك المفضل وهو يتجول في أشهر وأفخم الأماكن السياحية العالمية، مستعرضا عضلاته المشدودة وبشرته الصافية وأسنانه اللامعة. ثم تلمح برعب انعكاس ظلك في المرآة، لتقف وجها لوجه مع الفشل، الذي تم تسويقه من طرف «الأخ الأكبر» كأسوأ أنواع الخوف. لم تكتف «وزارة الحب» بتسليط سيف المؤثرين والمؤثرات على رقابنا، بل تجاوزت ذلك إلى إصدار نسخ رقمية مطورة ستعوض في المستقبل القريب المسوخ البشرية الكريهة أو ما يصطلح عليهم علميا بالأنفلوانزارز.
فما قصة كنزة ليلي وراضية بنسودة؟ التحق المغرب أخيرا بركب المؤثرات غير البشريات من خلال إصدار نسختين افتراضيتين لصانعات محتوى رقمي، بأهداف ترويجية وتسويقية. إذ نلاحظ أنه تم اختيار الأسماء بعناية تامة لإضفاء نوع من المصداقية وتمغرابيت على الشابتين اللتين تقدمان محتويات تهتم بعالم الجمال وفنون العيش الموجهة لجمهور النساء. يؤكد أصحاب الشركة الرقمية، المتواجدة في الدار البيضاء والمسؤولة عن ابتكار كنزة وراضية، أن دور المؤثرات يقتصر فقط على الترويج الإعلاني لبعض المنتجات التجميلية. لقد سبق لنا التعرف على «أتيانا لوبيز»، وهي مؤثرة وعارضة أزياء إسبانية تم تصميمها باستخدام الذكاء الاصطناعي. إذ تعتبر أتيانا لوبيز أكثر نسخة رقمية قريبة من الشكل البشري، لدرجة أن العديد من متابعيها كانوا قد عبروا عن صدمتهم حين اكتشفوا صدفة أن الأمر يتعلق بـ«روبو» وليس بفتاة فاتنة ذات شعر وردي.
إن اعتماد الذكاء الاصطناعي في تصميم كائنات شبه بشرية خطوة مرعبة نحو المجهول، غير أن مشاهدة مؤثرة افتراضية أنيقة رشيقة يظل أفضل بكثير من التعرض لخطر الإصابة بعمى الألوان الناتج عن متابعة مي نعيمة.