شوف تشوف

الرأيالرئيسيةدين و فكر

الغذاء الفكري وأثره

بقلم: خالص جلبي

 

من ملأ بيته بكتب السحرة تحول إلى ساحر. وعندما أدخل بيت أحدهم أعرف في أي فترة يعيش.. فإن كانت الكتب مزينة الأعقاب بالذهب، أعرف أنه يعيش أيام السلطان يعقوب أبو الصبر المستمسك بالله متجمدا في عام 1498م.

ويخيل للبعض أنه إذا حفظ أحدهم القرآن عن ظهر قلب لاحت له المقاصد الإلهية، وهو زعم يذكر بمن يدخل صيدلية هائلة، ويحفظ أسماء أدوية من هذه الصيدلية العملاقة، أنه محيط بعلم الطب والصيدلة معا. وكان محمد عبده حينما ينقل له خبر حفظ أحدهم للقرآن، يعقب فيقول زادت نسخ القرآن نسخة. ومع أن القرآن لم يشر ولو بآية واحدة إلى حفظه، وأشار في عشرات الآيات إلى تدبر معانيه. ولكن المسلمين حريصون على النقل أكثر من العقل، محولين المجتمع إلى متحف شمع على طراز مدام دي توسو في لندن، وهي نصيحة لزيارته حتى يتبين المعنى.. وعندما ضرب الطاعون لندن عام 1665م قضى على 70 ألفا من أصل 400 ألف من السكان، فلم يعرف الناس كيف جاء ولا كيف ذهب؟ وكان أهل المريض يبكون عليه ويقبلونه، فيصابون بالمرض بعده بأيام، ويلحقونه إلى عالم أنوبيس السفلي، حيث شارون الكئيب ينقل بزورقه البشر إلى عالم الأتراح أو الأفراح. والذي كشف المرض كان الطبيب «ألكسندر يرسن»، والياباني «كاتاياسو» وبيده ميكروسكوب، وكان هذا فاتحة رائعة لانتصارات الطب الحديث، بعد أن كان القوم يعتمدون على السحر والسحرة في فهم كيف تحدث الأمراض. ويعالج المرض اليوم ببضعة غرامات من الصادات الحيوية، مثل الستربتومايسين أو الجنتامايسين أو الأمينوغليكوزيد، بعد أن فهمنا نوعية الجراثيم التي تحمل المرض.

إذن ليست العبرة أن يقرأ الناس مائة كتاب أو ألف كتاب، بل ماذا يقرؤون؟ فمن يقرأ في الفكر القومي يخرج متعصبا مغلق الاتجاهات، ومن يقرأ في فقه الحصفكي والإسفراييني يخرج من فقهاء عصر السلطان قلاوون من المماليك البرجية. ومن يعتاد التصفيق في المظاهرات في عبادة الأصنام أحياء وأمواتا، يشبه من يواظب على (حضرة) الصوفية والقفز فيها. وشيخ الطريقة الصوفية يبايع إلى الأبد، مثل حكام العالم العربي، فهذه من تلك.

ونوعية الغذاء الفكري هامة جدا في إنتاج نموذج الشخص، فمن يواظب على قراءة الكتاب الأحمر يعبد «ماو تسي تونغ». ومن يقرأ في «الكتاب الأخضر»، يعتقد جازما أنه وصل إلى الحل النهائي لكل مشاكل الجنس البشري، كما زعم القذافي يوما قبل أن يقذف بلهب ونتر، لينتهي في قبر مجهول مرذولا منحوسا. ومن يقرأ «أعمال الكنيسة» يتعصب لفكرة مركب الأقانيم، فيظن أن الله انشطر إلى ثلاثة بدون أن ينشطر؛ فيما تعجز الكنيسة عن شرحه. ومن يواظب على قراءة كتاب «المراجعات» يعتقد أن الشيعة هم أهل الحقيقة الواحدة بدون ريب، وأن الصحابة قاموا بانقلاب عسكري لحرمان أناس من سدة الحكم. وإذا اعتاد الجسم على جرعات كبيرة من مادة النحاس يتعرض لتشمع الكبد، كما أن نقص الحديد ولو كان بكميات زهيدة، يعرض صاحبه لفقر الدم، فيجرجر رجليه وهنا على وهن، سنة الله في خلقه. لذا كان مهماً أن يكون الغذاء الفكري منوعا وبكميات كافية. وهكذا يتم التعامل مع النبات والأرض والحيوان والإنسان والمجتمع، فكثرة السماد تحرق التربة، ونقص الماء يميت كل الكائنات. وتجرع الكحول بكميات عالية، يصيب المعدة بالقرحة والكبد بالتشمع. ومن أخذ جرعة هيروين أصيب بالإدمان. ويرى «برتراند راسل»، الفيلسوف البريطاني، في كتابه «السلطان»، أن أفضل طريقة لتربية الأطفال هي عرض الأفكار المتناقضة لأبعد الحدود أمامهم، والسماع من أشد المتطرفين ومن الجانبين، وتدريب عقولهم على استيعاب مسافات الفروق؛ فيولد العقل النقدي الحاد النشط.

وصلاة الجمعة هذه الأيام تم اغتصابها من ثلاث مجموعات: وعاظ السلاطين وجماعات المتشددين وفرق التقليد. فأما «الوعاظ» فمهمتهم أن يقولوا إن السلطان هو الرازق الوهاب بيده الوظيفة والحبس. وأما «المتشددون» فهم يوقدون حروبا لا تنطفئ نيرانها ضد أكثرية أهل الأرض، أن يزلزل أقدامهم ويقضي على عائلاتهم ويجعلهم غنيمة للمسلمين. في خطاب يتبرأ منه الله والملائكة والناس أجمعين. وأما «جماعة التقليد» فهم ينصحون الناس بالصدق، في الوقت الذي تدرس كتب التاريخ في المدارس الابتدائية بكل أنواع الكذب. وأن الزعيم انشق القمر حين ولدته أمه. والأفضل حرصا على قواعد السلامة، أن يدمدم بحديث السحرة فيتكلم كلاما لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا ولا يحرض مخبرا سريا على كتابة تقرير سمي سري. والأفضل للخطيب الحديث عن فواكه الجنة، في الوقت الذي يركض المواطن كالحصان طول النهار كي يؤمن قوت عياله فوق حافة المجاعة. ويبقى بين هذا وذاك من نجا من دوائر القتل الثلاث؛ فتكلم بالحق، ووعى العصر، ودعا بالمغفرة وتفاهم الناس، ولكن مثله يعزل بسرعة بأشد من مرضى الإيدز و«كوفيد- 19».

كيف يمكن أن نغذي الفكر إذن؟ المشكلة ذات ثلاث عقد، كل عقدة أعلى من أعلى سور في استخبارات العالم العربي، فالعروبة وقفت أمام الانفتاح على اللغات العالمية، والتشدد المجنون أغلق العقول أمام الانفتاح على الثقافات الكافرة بزعمهم. وفي أتون الاستبداد السياسي تبقى قائمة الكتب المحرمة والممنوعة لانهاية لها. وبذلك يكبل عقل المواطن بثلاث سلاسل، كل واحدة منها ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه.

راجع مريض مرعوب طبيبه وهو يسأله بحرقة: يا دكتور هل مرضي خطير؟ هل تتوقع لي أن أعيش؟ أجابه الطبيب بهدوء: نعم، ولكن لا أنصحك بذلك. والمواطن العربي اليوم يعيش من أجل أن لا يعيش.

 

نافذة:

أفضل طريقة لتربية الأطفال هي عرض الأفكار المتناقضة لأبعد الحدود أمامهم والسماع من أشد المتطرفين ومن الجانبين وتدريب عقولهم على استيعاب مسافات الفروق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى