العولمة وإدارة الشأن الإنساني
رضوان السيد
في كتابه «ما هي العولمة؟» (2015)، يذكر الباحث الألماني المعروف «أولريك بك»، لظاهرة العصر أربعة معالم:
– سهولة انتقال الأموال والسلع والأشخاص.
– سيطرة وسائل الاتصال الرقمية والعقول الذكية.
– تصغير أحجام الدول وإداراتها العامة.
– ظهور ميول متعارضة بشأن التقارب والتباعد والتعاون أو القطيعة في النظام العالمي.
وبالطبع هناك نقاشات بشأن العالمية في التاريخ والحاضر، تعود لأكثر من مائة عام. لكن مصطلح «القرية الكونية» للإشارة إلى الترابط الشديد، بدأ يسود منذ ثمانينيات القرن الماضي، فلنتخذ من ذلك العقد نقطة الانطلاق لفهم العولمة الحاضرة.
وبالنسبة إلى المعْلم الأول، هناك بالفعل سرعة هائلة في انتقال الأموال والسلع، وهو الأمر الذي ظهر في مفاعيل وأفاعيل الشركات العالمية الهائلة: التوسع والاتساع. إنما ما زالت هناك عقبات كبرى في حركات الأفراد والجماعات. وينبغي هنا التمييز على أي حال بين تحركات البشر المتعلقة بالتجارة والسياحة والترفيه والهجرة الطوعية التماسا لنوعية العيش، وتحركات الجموع الباحثة عن الأمن من الخوف وضرورات العيش. وهذا النوع الثاني هو الذي يلقى عقبات جمة، مع أن المهاجرين اضطرارا يبلغون اليوم قرابة المائة مليون ممن تقطعت بهم السبل، سبل الأمن والعيش.
ولنصِرْ إلى المعلم الثاني: وسائل الاتصال، وهو الأبرز بين تلك المعالم. فهذا التقدم الرقمي أتاح لمليارات البشر وسائل للتعبير، بل وتحقيق المصالح. لكن من جهة ثانية فإن وسائل التعبير الجديدة، قضت أو أوشكت على القضاء على وسائل وأدوات أخرى. فمن جهة النوع هناك اطراد تقدمي، إنما من جهة الكيف، فإن هذا الطوفان أخرج بشرا كثيرين جدا من مجرى أو مجاري هذا السيل. بالإضافة إلى أن بعض الوسائل الجديدة مثل العقول الإلكترونية أو الذكية هي بطبيعتها قابلة للاحتكار، ولا تسُهلُ المشاركة فيها.
أما المعلم الثالث، الذي قال به الليبراليون الجدد: تصغير حجم الدول أو إداراتها، فقد تسبب أيضا بمشكلات اجتماعية كبرى لليد العاملة التي لم تعد تجد استخداما. لقد سيطرت نزعة تخصيصية أفادت منها الشركات الكبرى، التي حلت محل الإدارات العامة، بحجة الكفاءة الأعلى في الخدمة وقضاء المصالح. ثم إن الفوضى الناجمة عن سيطرة الشركات على الدول، أبرزت الحاجة إلى العودة لتقوية إدارات الدول من أجل خدمة الجموع من جهة، ومن أجل الانضباط وحكم القانون الذي لا تأبه له الشركات. لذلك يرى «أولريك بيك»، وآخرون ذكرهم (وهم غالبا من الفلاسفة والمفكرين)، أنه لا بد من تجديد مفهوم التداولية لجهة الرأي العام، ولجهة تعقل الناس للجهات التي تديرهم. ولهذا هناك اليوم من يرى أنه بسبب هذه المفارقات ظهرت الشعبويات والديكتاتوريات على هامش الاحتكاريات والحقائق الاعتبارية.
وظهرت مشكلات كثيرة في التضامن والتعارف على المستوى العالمي. فالمؤسسات والمفوضيات الدولية ضعفت لجهتين: جهة الحفاظ على الأمن على المستوى العالمي، وجهة رعاية حفظ 40 في المائة من البشرية من أخطار الجوع والمرض واختلالات الزراعة والبيئة والمناخ. وقد ظهر ذلك جليا في وباء كورونا واستيلائه، وليس بسبب العجز العلمي والطبي فقط، بل والأنانيات في التشخيص والعلاج وتأمين الوسائل الطبية. فلا بد من دعم للمؤسسات الدولية وإلا فسيتطرق الاختلال والخراب إلى جهات كثيرة في العالم.
إنها مرحلة جديدة في أزمنة الظاهرة المسماة بالعولمة. وهو زمن حافل بالإمكانيات، لكنه حافل أيضا بالتحديات والمشكلات.