شوف تشوف

الرأيالرئيسية

العنجهية الاستعمارية

قد يستطيع شخص «نصاب» أن ينجو بأفعاله لفترة ولو طويلة، لكنه في النهاية سينكشف ويقع.. هكذا الأمر أيضا مع من يتصرف بصلف وعنجهية، أي المغالاة في الإنكار وعدم الاعتراف بالخطأ.

وكما نعرف في الطب أن التشخيص نصف العلاج، فإن إنكار الخطأ وعدم الاعتراف به يعني عدم التشخيص الصحيح، وبالتالي لا ينفع أي علاج.

هذا في حال البشر كأفراد، أما في حال الدول، والكبرى منها بخاصة، يؤدي العناد والمكابرة والعنجهية والصلف إلى تراكم نقط ضعف، تقود في النهاية إلى الانهيار. ربما لا يكفي هذا العامل وحده لحدوث الانهيار، خاصة إذا كانت الدول حيوية ومرنة ويمكنها علاج نفسها بنفسها. إنما إذا تضافر مع عوامل أخرى، فالانهيار يصبح حتميا.

أتصور أن ذلك ما حدث مع الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى منتصف القرن الماضي، فقد تضافرت العنجهية الاستعمارية مع قوة حركات التحرر الوطني والاستقلال في المستعمرات، وصعود جيل جديد من الوطنيين الذين لا يمالئون المستعمرين ولا يدمنون التنازلات والحلول الوسط. فضلا طبعا عن حربين عالميتين في النصف الأول من القرن الماضي، أرهقت الدول الأوروبية الاستعمارية بشدة، خاصة اقتصاديا وماليا.

نشرت ببريطانيا الشهر الماضي وثائق تعود إلى ما قبل أزمة قناة السويس وحرب العدوان الثلاثي على مصر في 1956. وأظهرت تلك الوثائق الرسمية بجلاء أن بريطانيا وفرنسا كانتا تتآمران حتى لا تسلم القناة إلى مصر، بعد انتهاء امتياز 99 عاما في 1968. ورغم أن ذلك ليس مفاجئا، فقد كان المصريون يدركون منذ البداية أن القوى الاستعمارية لا تنوي إعادة قناة السويس إلى المصريين بأي شكل. وذلك حتى من قبل إعلان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر تأميم القناة في 1956.

ومع أن قرار التأميم جاء في ظاهره ردا على منع الولايات المتحدة صندوق البنك الدولي من تقديم قرض لمصر طلبته لبناء السد العالي، إلا أن عزم المصريين على استعادة القناة خالصة لمصر كان موجودا وينتظر اللحظة المناسبة، خاصة منذ جلاء الاحتلال البريطاني عن مصر عام 1954. ورغم أن بعض رسائل المسؤولين البريطانيين في مصر لحكومتهم في لندن، التي كشفتها الوثائق، كانت تشير إلى عزم الضباط الأحرار على ذلك منذ توليهم السلطة عقب ثورة يوليوز 1952، إلا أن رموز الحكومة البريطانية في لندن لم يأخذوا الأمر بجدية، وظل تصورهم أنه يمكن التعامل مع هؤلاء القادة الشباب الجدد بطريقة أقرب لما كانوا يفعلونه مع سياسيي مصر، في العهد الملكي وتحت الاحتلال.

وفي نقاش حول تلك الوثائق شاركت فيه مع فواز جرجس، من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن، وديفيد لوي من جامعة ليدز، كان السياق الرئيسي هو أن قرار الرئيس جمال عبد الناصر كان مبررا تماما لتآمر بريطانيا وفرنسا على عدم تسليم القناة في موعد انتهاء الامتياز. وأن قرار التأميم جاء ضربة استباقية موفقة، تعكس وطنية القيادة المصرية الجديدة واستقلاليتها.

لكنني ركزت في مداخلاتي على أن الأزمة العميقة التي خلفها قرار التأميم للبريطانيين، حتى كادت أن تصبح «عقدة السويس» كما يشار إليها حتى الآن، سببها العنجهية الاستعمارية والصلف الذي ميز رئيس الوزراء البريطاني آنذاك وينستون تشيرشل، ووزير خارجيته الذي خلفه في رئاسة الحكومة، أنتوني إيدن. وكيف أن تلك العنجهية كانت علامة واضحة على ضعف الامبراطورية، وأنها «شاخت» ووصلت المرحلة الأخيرة في انهيارها.

وكلما تكشفت وثائق رسمية تاريخية، يكتشف الناس أن كل ما يقال عن العبقرية السياسية والحنكة الاستراتيجية لبعض الزعماء ليست سوى إنشاء متأخر ممن يعملون على استمرار الصلف والعنجهية باعتبار ذلك تحفيزا للوطنية. فمن يقرأ كتاب رئيس الوزراء البريطاني المستقيل بعد فضائح بوريس جونسون عن تشيرشل، يخرج باستنتاج أنه من أعظم زعماء بريطانيا وربما العالم! لكن الحقيقة لا تبدو كذلك فعلا. وإذا عدنا إلى الانتقادات التي كانت توجه إلى تشيرشل في وقته، لتبين لنا أنها كانت مصيبة، لكن سياق الحرب العالمية الثانية وقتها جعل أنصار تشيرشل يغطون عليها، باعتبارها مماحكات في إطار التنافس السياسي من المعارضين.

حتى الإرث العظيم بأن «تشيرشل انتصر في الحرب العالمية الثانية كقائد للحلفاء» يمكن القول بأنه مبالغة كبيرة، إذ إن انتصار الحلفاء يعود إلى القوة التي كانت بازغة وقتها وهي الولايات المتحدة. وليس غريبا أن نكتشف الآن أن أمريكا في أزمة السويس لم تساند بريطانيا وفرنسا، ليس حبا في مصر، وإنما لأنها كانت تدرك أن تلك الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية تنهار، وأنها ترغب في ذلك الإرث بطريقة مختلفة كقائدة جديدة للعالم.

وأشار د. فواز جرجس في مداخلته إلى أنه بعد مراجعة تقريبا كل الوثائق الأمريكية لتلك الفترة، خلص إلى حقيقة أن من بين ما ورثته أمريكا من الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، هو أيضا التصدي لمحاولات الاستقلال الوطني في الدول التي تريد السيطرة عليها، لكن دون حروب واحتلال.

 أحمد مصطفى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى