شوف تشوف

الرأي

العلم بين الإيمان والإلحاد

بقلم: خالص جلبي

مقالات ذات صلة

 

ما هو الإيمان؟ ما هو العلم؟ وهل يمكن المزج بينهما؟ لا بد إذاً من تعريف كليهما. ذكر القرآن هذا المزيج مكررا في موضعين: بالإيمان والعلم يرتفع الإنسان وبهما يصل إلى اليقين: «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات». و«قال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنكم كنتم لا تعلمون».

 أعجبني تعريف الدكتور «محمد كامل حسين»، في كتابه «وحدة المعرفة»، لفكرة تطابق النظام العقلي والكوني لتعريف العلم، فقال: «في الكون نظام وفي العقل نظام، والمعرفة هي مطابقة النظامين. والنظامان من معدن واحد، والمطابقة بينهما ممكنة، لما فيهما من تشابه. ولو لم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة. ولو لم تكن المطابقة بينهما ممكنة، ما علم أحد شيئا. وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضا يحتاج إلى برهان، بل هو جوهر إمكان المعرفة. ومن أنكره فقد أنكر المعرفة كلها، وهذا الإنكار خطأ يدل عليه ما حقق العقل من قدرة على التحكم في كثير من الأمور الطبيعية. ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك، لو أن النظامين كانا مختلفين. ومهما تغيرت المعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا للكون، فإن الحقيقة التي تثبت ثبوتا قطعيا هي هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل».

هل يمكن أن نرسم معادلة يتوحد فيها العلم والإيمان فيصبح كلاهما وجهين لعملة واحدة، أو طرفين لمعادلة مشتركة، أو تجليين لحقيقة أساسية واحدة؟

(أولا) الإيمان ليس معرفة باردة بل حالة نفسية تتحرك في مخططات لا تعرف الراحة؛ فقد تمر علينا في اليوم الواحد لحظات من القنوط الكافر، كما قد ننتعش بلحظات رائعة من الإيمان المحلق فهذه ميزة للإيمان.

وعندما وصف «مالك بن نبي» في كتابه «وجهة العالم الإسلامي» مصلحا اجتماعيا، وهو يستخدم القرآن وفق شروطه النفسية، قال: «إنه لم يكن يفسر القرآن تفسيرا، بل كان يوحيه إلى الضمائر فيزلزل كيانها. فلم يعد القرآن على شفتيه وثيقة باردة أو قانونا محررا، بل كان يتفجر كلاما حيا ونورا يشع من السماء فيضيء ويهدي، ومنبعا للطاقة يكهرب إرادة الجموع».

فالرجل لم يكن يتحدث عن «ذات الإله»، كما صورها علم الكلام، بل «الفعال» في حياة الناس، والحقيقة القرآنية هنا يتجلى أثرها في الضمير والحياة اليومية أكثر من النقاش في الذات والصفات. 

(ثانيا) يعتبر الإيمان منبعا للطاقة لا ينضب، فمع كل انهيار نفسي يلجأ الإنسان إلى هذا الخزان الكوني المطيق، يملأ طاقته ويشحذ همته لتحمل الصدمات والألم والمعاناة، بما فيها صدمة الموت.

(ثالثا) يشكل الإيمان آلية تخلع معنى على الحياة، وبدون هذا يركبها العبثية التي تقود إلى التفاهة والانتحار أحيانا، الذي هو بتعبير مختلف تقديم الاستقالة من الحياة، فليس فيها ما يستحق أن يعيشها الإنسان.

(رابعا) الإيمان محبة ومشاركة مع الخالق العظيم وكائناته، وهذا يعطي دفعا هائلا لتقدير الحياة والتمسك بها، والمحافظة عليها، والتواصل بها مع الآخرين، فتوفر جوا من السعادة لا ينضب. إن هذا لرزقنا ما له من نفاد، وما عندكم ينفد وما عند الله باق. 

(خامسا) الإيمان يوسع نافذة الرؤيا فيصبح الإيمان باليوم الآخر وملائكته مطا للشعور الإنساني أن الوجود ليس فقط ما يصل إليه بحواسه، وهذا يرفع الشعور إلى مستوى القداسة، ويجعلنا نفهم الحياة أنها أكبر بكثير مما يتصور الواحد؛ فيخلع رحابة غير عادية على الوجود، وراحة للروح أن هناك قوة مطلقة لا نهاية لحكمتها، وعدلها ورحمتها اللطيف الخبير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

والإيمان (سادسا) يزيد وينقص في مؤشر لا يعرف التوقف، طالما كنا نمارس الحياة وهذا يستنفرنا أن نشحذ هذه الآلية التي يمكن أن تصل إلى أقصى درجات التوتر والنقاء، أو أن يخالطها لبس فتخسر الأمن، فتصبح الحياة معها ضنكا «الذين آمنوا ولم يلبسوا لإيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون».

والإيمان (سابعا) يغير السلوك ويفيض على المشاعر فتكسوا تعبيرات الوجه مسحة ملائكية نورانية، «سيماههم في وجوههم من أثر السجود»، أو بالمقابل عندما وصف الله المجرمين الذين يعرفون بسيماههم فيؤخذ أحدهم بالنواصي والأقدام.

و(ثامنا) يعد الإلحاد حالة لا تطاق والإيمان ضرورة نفسية، روى هذا بشكل واضح (جيفري لانغ) في تجربته الروحية، عندما كان مسيحيا فطلقها فأصبح ملحدا، ثم تحول بعد ذلك إلى الإيمان وعرض تجربته مع القرآن والمسلمين في كتابه «الصراع من أجل الإيمان»، عندما اطلع على القرآن الذي وصفه بأنه يقوم بتحليل نفسيتك، فقبل أن تبدأ في عرض مشاكلك عليه، يقوم بمفاجأتك باطلاعه على خبايا النفوس من شكوك وإشكالات.

و(تاسعا) الإيمان أمل دائم والكفر يأس مقيم والقنوط ضلال مبين.

و(عاشرا) يفتح الإيمان منافذ الفهم، والكفر يسدل الستار على الحواس ويغلق منافذ الفهم والاتصال بروح الكون وقوانين الطبيعة. من هنا استخدم القرآن لفظ الكافر بمعنى الزارع في سورة «الحديد»: «كمثل غيث أعجب الكفار نباته»، وليس الكافر تحديدا، كما هي في المصطلحات الشرعية.

والإيمان (حادي عشر) هو مشكلة اجتماعية سياسية، فالتوحيد ليس مسألة ثيولوجية غيبية، بل أرضية سياسية. وهو تأسيس مجتمع أفقي لا يتخذ الناس فيه بعضهم بعضا أربابا من دون الله، وهو ما حققه الغرب سياسيا إلى حد كبير وغرق في وثنيته العالم الإسلامي، فهم يعبدون زعماءهم وكبراءهم فأضلوهم السبيل.  

 

نافذة:

مهما تغيرت المعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا للكون فإن الحقيقة التي تثبت ثبوتا قطعيا هي هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى