العلماء المغاربة المنسيون …بينهم أول من ألف رواية مغربية ونابغة في الفلك لا يعرفه أحد
يونس جنوحي
قد لا تعرفون أبدا رجلا مغربيا اسمه الحسن بن الطيب اليماني. لكنه، وغيره ممن خصصنا لهم هذا الملف، كانوا قامات علمية من الصعب أم تتكرر اليوم.
عاش هذا العالم في مدينة مراكش، حيث عكف على التأليف سنة 1906، لعدد من المخطوطات التي وجدت لاحقا تحمل اسمه، حيث تخصص في توثيق تاريخ المغرب وعلّق على الأوضاع السياسية التي عاشها، وتفرغ لإعادة نسخ بعض المخطوطات.
لكن، والكلام هنا للدكتور محمد المنوني: “الملاحظ أن المؤلف على قرب عصره لم تدون له ترجمة بالمصادر المهتمة، فلا ذكر له في “السعادة الأبدية” لابن الموقت، ولا في “الأعلام” لابن إبراهيم، أو في “إتحاف أعلام الناس” لابن زيدان. كما أنه غير وارد عند إبن داني في “الدرة السنية” ولا عند غريط في “فواصل الجمان”. ثم لم يرد اسمه عند ابن سودة في “دليل مؤرخ المغرب الأقصى”. هذا إضافة إلى أن التحريات في مراكش، بلد المؤلف، لم تسفر عن أي معلومات عنه.
وبهذا فإننا أمام فراغ حول ترجمته، حتى إذا رجعنا إلى الجزء الأول من كتاب المؤلف لا نستخرج إلا معلومات ضئيلة عن حياته، فيشير في المخطوط إلى وفاة زوجته أم كبار أولاده، بتاريخ 1878، مما يحدد سنه إذ ذاك على وجه من التقريب، وبالتالي يوقت لولادته تقديرا”.
علماء كانوا أبناء وزراء وآخرون نشؤوا فقراء ووصل صداهم إلى الشرق
رغم أن الحياة فرقت في أصولهم وانتماءاتهم، إلا أن العلم وحّدهم، في مراحل مختلفة من تاريخ المغرب، حتى قبل الدولة العلوية، ليصبحوا أعلاما قدموا الكثير للخزانة المغربية في العلوم ومنهم من تدرجوا في أسلاك الدولة وأصبحوا كتاب وقضاة. ومنهم من تركوا وراءهم إصلاحات قضائية بقيت معتمدة في النظام القضائي المغربي إلى فترة ما بعد الاستقلال رغم أن واضعيها توفوا قبل أزيد من قرن.
إذ أن جهاز القضاء المغربي كان وراءه مهندسون منذ أزيد من 400 سنة، أمثال الفقيه العلامة اليوسي الذي عاصر بداية ازدهار الدولة العلوية. ونذكر منهم على سبيل الإشارة فقط، كلا من العالم الكبير عبد العزيز الجيار، وأبي النعيم الغساني، والحسن بن يوسف الزياتي ومحمد بن عبد العزيز الفشتالي. فهؤلاء رغم توزيعهم الجغرافي المتباين، وانتمائهم إلى فترات متفرقة من التاريخ، إلا أنهم أسهموا بشكل كبير في وضع أسس القضاء وفلسفة عمل بعض مؤسسات المخزن الكبرى كدار الضرائب والقوانين التي نظمت العمل مع النصارى.
لكن بعض هؤلاء العلماء أدوا ضرائب وصلت حد نفيهم وتعذيبهم خلال زمن السيبة. فقد كانت عائلات العلماء الموالية لوزراء المولى الحسن الأول الأقوياء، خصوصا آل الجامعي، على موعد مع نهايات مأساوية لم تكن تليق بمقامهم العلمي على يد أعوان الصدر الأعظم باحماد سنة 1894 حيث تمددت مآسيهم حتى بعد وفاته.
كان هؤلاء العلماء يعارضون وصول بعض الأسماء المخزنية إلى السلطة وكانوا يدعمون بقاء أبناء أسرة الجامعي في الوزارات السيادية حيت كانوا يتحكمون فعليا في تعيينات القضاة وممثلي السلطان في الأقاليم.
وقد حدث أن طالب سكان مدينة الرباط، قبل أن تصبح عاصمة للمغرب، بإقالة عالم عينه القصر في فاس خلال فترة قوة الصدر الأعظم باحماد، لكي يكون مشرفا على جهاز القضاء في الرباط والنواحي. فكان سكان المدينة يعارضون قدوم عالم من فاس، وطالبوا بتعيين وجيه من أسرة بركاشالمخزنية مكانه. فما كان من باحماد إلى أن أرسل إلى الرباط من يؤدب المطالبين بالإقالة ليفرض عليهم قاضيا آخر بتعليمات صارمة لعدم مخالفته. وقد تناولت مراجع تاريخية هذا المعطى، ووصفت الواقعة بأنها المقصلة التي قطعت، مجازا، مجد عدد ممن كانوا علماء كبار في المغرب حيث كانوا من فقهاء القضاء.
تامكروت إليغ وأباعقيل.. قرى العلماء المنسية
عندما تناول العلامة المختار السوسي في كتابه الفريد، “المعسول”، لوائح بأسماء العلماء المغاربة الكبار الذين قدموا الكثير للدولة المغربية في مجال العلوم، كان الرجل قد بذل مجهودا خرافيا بمعايير ذلك الوقت (أربعينيات القرن الماضي) لكي يجول في منطقة سوس ويحدد لوائح بأسماء الأعلام الكبار المنسيين الذين وصلت مؤلفاتهم إلى الشرق ووجدت في مكتبات تردد عليها الحجاج المغاربة في مصر والحجاز، لكنهم بقوا حبيسي الرقعة الجغرافية الضيقة التي كانوا ينتمون إليها.
أحد هؤلاء هو العلامة الكبير سيدي حسين الذي وصلت مؤلفاته إلى ليبيا قبل أزيد من قرنين، والذي عاش متنقلا لفترة بين المدارس العتيقة في نواحي تارودانت بمنطقة سوس. ورغم أنه دفن في ضريح منسي إلا أن آثاره العلمية وصلت مكتبة جامع الأزهر في القاهرة ومكتبات وقفية في مكة والمدينة، وهناك دراسات جامعية عنيت بالتدقيق في مخطوطاته.
يقول العلامة المختار السوسي في خلاصة بحثته أثناء إنجازه لـ”المعسول” إن جل القرى المنسية في منطقة سوس قدمت عالما أو عالمين على الأقل، منهم من برعوا في الفقه والتفسير وعلوم الحديث تدوينا وحفظا، ومنهم من رحل إلى الحج للدراسة وعاد حافظا عن شيوخ بسند مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما جعل هؤلاء العلماء المغاربة يصبحون خلال القرنين 18 و19 وازنين رغم أنهم لم يمارسوا أي مهام في الدولة.
هؤلاء الذين سكنوا القرى والمداشر المنسية في المغرب، بقي علمهم موثقا في المخطوطات، ومنها التي وصلت إلى الباحثين المعاصرين بفضل مكتبة جامع تارودانت الأعظم الذي يؤرخ لبداية الدولة السعدية، أي قبل 500 سنة من اليوم. وهذه الوثائق تؤرخ لعلماء مغاربة برعوا في علم الفلك والمنطق والفلسفة والطب. ومنهم من تفصلوا في علم التشريح والجراحة ونقلت مؤلفاتهم إلى الإنجليزية والإسبانية.
وقد أشار مكتشفون فرنسيون خلال الحملات الفرنسية إلى هذه الوثائق التي وجدوها في مخازن صخرية في مرتفعات الأطلس، حيث كان السكان المحليون يحافظون على تلك الوثائق من الضياع، عبر حفظها في جوف القصب المجفف، وعكف هؤلاء المستكشفون على تصويرها وتمت ترجمة بعضها إلى الفرنسية بفضل مستشرقين لبنانيين وسوريين في جامعات فرنسا، حيث وجدوا أن بعض تلك المخطوطات تتحدث عن الفلك والطب رغم أن أصحابها كانوا بعيدين كليا عن مركز الدولة ولم يكونوا يشغلون أي وظائف رسمية، بل كا معظمهم مقيمين في القرى نواحي تزنيت واكادير وتارودانت وصولا إلى مراكش، ويعيشون في المدارس العتيقة للتعليم الأصيل، حيث كانوا يشرفون على تدريس الطلبة العلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم، في نفس الوقت الذي انشغلوا فيه بالتأليف في العلوم قبل قرابة ثلاثة قرون. ولم يتم حفظ مؤلفاتهم ومخطوطاتهم إلا في ستينيات القرن الماضي عندما تسلم المغرب دفعات من الأرشيف الذي أعادته فرنسا في إطار الصداقة بين البلدين، ليأمر الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1964 بالتدقيق في تلك المخطوطات وتحقيقها وطباعتها وفتح أروقة الخزانة الملكية أمام الباحثين المغاربة لكي يدققوا في تلك المخطوطات ويعيدوا إلى أصحابها الاعتبار اللائق بقاماتهم العلمية.
مولاي الطيب العلوي الموسوعة.. عاش أيام الجوع وعارض فرنسا
بقدر ما كان محظوظا لأنه نشأ في عزّ قوة وتأثير جامع القرويين في المشهد العام بالمغرب، بقدر ما كان غير محظوظ بسبب الظروف التي كانت تمر بها البلاد وهو يتلمس أولى خطواته في العلم والحياة.
عندما وُلد سنة 1896، لم يكن هذا العالِم المغربي مُدركا لقيمة الفترة التاريخية التي رأى النور فيها، ولكنه عندما كبر ومارس الكتابة، عكف في مخطوطاته الأصلية، والتي جمعها في ما بعد أحمد العلوي، على التأريخ لتلك المرحلة حسب الشهادات التي جمعها على لسان والده وأعمامه، ثم مضى يحكي عن التفاصيل الأخرى التي عاشها وهو شاب إلى أن صار له اسم في ميدان مؤسسي الحركة الوطنية والوعي السياسي في مغرب العشرينيات من القرن الماضي.
ومن أطرف ما حكاه الطيب العلوي في مذكراته، ما أورده عن ذكريات طفولته والمسار العصيب الذي اتخذه لنفسه طلبا للعلم. يقول: “دفعت إلى معلم مكثت عنده نحو السنة وأنا ابن ستة أعوام فلما تمت السنة جعل يعلمني الحروف وبعض السور القصار من القرآن حتى إذا آن وقت السراح مر بنا أمام ديك عظيم عنده فيأمرنا أن نحييه بالانحناء، وأنا إلى الآن لا أدري ما هو قصد هذا المعلم من انحنائنا للديك هل هو مطلق إظهارنا لطاعته وتنفيذ أوامره أو هل هناك قصد آخر لم نطلع عليه، فالرجل مسلم من أشد القبائل ممسكا بالإسلام في المغرب وهي مصامدة سوس.وحتى لو جوزنا لأنفسنا أن نرميه بالإلحاد وعبادة الحيوان فإن هذا النوع من التأليه لم يكن في المغرب قديما ولا حديثا فالرجل كان تيجاني الطريقة. وحتى الذين كانوا يعبدون الحيوانات فإن الصلة حينئذ كانت منقطعة بيننا وبينهم فلا جرائد ولا إذاعة ولا طيران ولا شيء من وسائل المواصلات.
انهال عليّ هذا المعلم يوما وأنا في الشارع بضرب على رأسي حتى كدت أفقد حياتي. أتدري بم ضربني؟ ضربني بمفتاح حديد. وإلى اليوم لا أدري لماذا لم أنس ألم ضربه إياي أبدا. تألمت أمي لذلك كثيرا فنقلتني إلى کتّاب آخر بـ”ادخسال”الثكنة العسكرية التاريخية فكنت هناك إلى أن انفصل عنهم الفقيه الذي كان يعلم هناك فنقلنا أنا وأخي إلى حلة رتب بها للتعليم قرب “اروكو” فنزلنا في مسجد خيمة وكنت ألفت السكنى في الدور فلما شاهدت الخيام هالني سكناها زيادة على فرقة أمي وحنانها فكنت إذا غربت الشمس تأخذني حسرة وغم كأنما انطبقت السماء على الأرض وأنا
بينهما أتململ.
رحل الناس يوما على عادتهم فكنت أسير خلف الأظعان وأتذكر أمي وأبكي فالتفتت امرأة جميلة شابة إلي ورثت لحالي وقالت لي: مالك؟ فأجابها أخي: إنه اشتاق إلى أمه فقالت: بالله ابلغوا هذا الصبي إلى أمه. ولكن شد ما كان أقسى مما كابدته جواب أخي إذ قال بالأمازيغية: “ارخصاص” أي رخيص عليه فزادت هذه الكلمة علي ألما أقسى علي وأمر مما أقاسي. كانت السنة شديدة ومع ذلك كان هؤلاء الزيانيون لا يفرطون في الطلبة بما أمكن لهم. ننتظر وجبة الطعام حتى إذا حضرت كان فيها خبز أشد سوادا من حظي وماء قراح. أعض منه مضغة فألوكها كالدواء ثم اطرحها لأنني لا أقدر على إساغتها فلما اشتد بالناس العوز تفرق الطلبة شذر مذر فرجعنا إلى أمنا لأن القحط عم المغرب هذه السنة 1906فقحط الناس ولم يحرثوا”.
ورغم هذه الصعوبات التي عرفها الطيب العلوي خلال حياته، خصوصا في مرحلة طلب العلم، إلا أنه أصبح في أربعينيات القرن الماضي أحد كبار المنظرين للحركة الوطنية وأحد العلماء الذين كرمهم الملك الراحل محمد الخامس في أكثر من مناسبة، رغم أنه عانى الكثير من التضييق بسبب مواقفه من الاستعمار الفرنسي، حيث تعرض للتحقيق في أكثر من مناسبة وطُلب منه التخفيف من نشاطه الدعوي والسياسي المعارض وقتها للحماية الفرنسية.حيث يعتبر اليوم أحد مؤسسي الكتلة الوطنية ورائدا من رواد الحركة الوطنية بالأطلس المتوسط، وبقي بعد الاستقلال أحد الوجوه المغربية النشيطة في مجال الحفاظ على المخطوطات العلمية خصوصا التي درسها على يد الأساتذة القدامى، إلى أن توفي سنة 1964.
عالم طلب من المولى يوسف سنة 1912 اقتناء مطبعة لمنافسة الشرق
اسمه الحسن بن الطيب بن اليماني، وهو الذي ألف المرجع التاريخي المهم: “التنبيه المغرب لما عليه الآن حال المغرب”. حيث اعتبر هذا المفكر المغربي الذي عاصر المولى يوسف أحد أوائل الذين مارسوا التوثيق بصورته المعاصرة في المغرب.
كان من حظه أن والده كان وزيرا في الدولة أيام المولى محمد الرابع. إذ اعتبر المدققون في مخطوطه أنه الابن المباشر للوزير الطيب اليماني بوعشرين الذي توفي سنة 1869. وهو ما يجعل تحديد فترة ميلاد ابنه الحسن اليماني تقريبية. إذ أن الابن عرف نوعا من الجفاء بعد وفاة والده قبل أن تعيده الأقدار إلى دائرة القصر الملكي بطلب من المولى الحسن الأول الذي اختاره لتدريس أبنائه، خصوصا مولاي يوسف ومولاي محمد (الذي أصبح محمد الخامس في ما بعدُ).
عاش هذا العالم في مدينة مراكش، حيث عكف على التأليف سنة 1906، لعدد من المخطوطات التي وجدت لاحقا تحمل اسمه، حيث تخصص في توثيق تاريخ المغرب وعلّق على الأوضاع السياسية التي عاشها، وتفرغ لإعادة نسخ بعض المخطوطات.
لكن الملاحظ، والكلام هنا للدكتور محمد المنوني: “الملاحظ أن المؤلف على قرب عصره لم تدون له ترجمة بالمصادر المهتمة، فلا ذكر له في “السعادة الأبدية” لابن الموقت، ولا في “الأعلام” لابن إبراهيم، أو في “إتحاف أعلام الناس” لابن زيدان. كما أنه غير وارد عند إبن داني في “الدرة السنية” ولا عند غريط في “فواصل الجمان”. ثم لم يرد اسمه عند ابن سودة في “دليل مؤرخ المغرب الأقصى”. هذا إلى أن التحريات في مراكش، بلد المؤلف، لم تسفر عن أي معلومات عنه.
وبهذا فإننا أمام فراغ حول ترجمته، حتى إذا رجعنا إلى الجزء الأول من كتاب المؤلف لا نستخرج إلا معلومات ضئيلة عن حياته، فيشير في المخطوط إلى وفاة زوجته أم كبار أولاده، بتاريخ 1878، مما يحدد سنه إذ ذاك على وجه من التقريب، وبالتالي يوقت لولادته تقديرا”.
أما بخصوص أستاذته، فقد برز في تعليمه الأول، كما أورد بنفسه، اسم مؤدبه علي رزكو، ثم أستاذه في العلوم محمد السباعي الدرباكي. وكلاهما عالمان مغربيان عرفا في مجال التأليف والفقه.
ورغم الغموض الذي لف حياته وترجمته، إلا أن هناك ذكرا لهذا العالم المغربي في بلاط المولى يوسف، حيث عاد من الحج في السنة الأولى التي وصل فيها المولى يوسف إلى الحكم، أي سنة 1912، وطلب منه بحكم أنه مارس التدريس في دار المخزن، أن يسمح له بالإشراف على خلية من الكُتاب المغاربة، والذين كان اغلبهم يشتغلون في الدواوين، على نسخ عشرات الكتب النادرة التي أحضرها معه من موسم الحج وطلب منه اقتناء “مطبعة” لأنه سمع الكثير عن قدرة تلك الآلة في النسخ، عندما التقى في المشرق بعدد من الأزهريين الذين تحدثوا له عن مزايا طباعة ونسخ الكتب والمخطوطات.
ورغم كل هذه الإشارات إلى الدور الكبير والحظوة التي تمتع بها هذا المؤرخ المغربي، إلا أنه من المحير فعلا عدم وجود ترجمة وافية له أو لسيرته الذاتية، ولا يوجد تفسير إلى اليوم لسبب اختفاء اسمه من كبار المراجع التي تخصصت في جمع أسماء العلماء المغاربة الكبار وإنجازاتهم، رغم أن مؤلفه في التاريخ، يبقى أحد أهم مصادر التوثيق لمغرب ما قبل الحماية الفرنسية بقليل. وربما كانت وظيفة والده، الوزير في الدولة المغربية أيام المولى محمد الرابع، واشتغاله في التدريس داخل القصر الملكي، أحد أسباب تعمد تهميشه، في إطار تصفية الحسابات في دار المخزن القديمة.
المسفيوي ومحمد بن عبد الرزاق.. سجنهما الاستعمار مع المختار السوسي
يتعلق الأمر بمحمد المسفيوي، الذي قضى الجزء الأكبر من حياته في مراكش، ومحمد بن عبد الرزاق الذي ولد سنة 1906، وعاش 105 سنوات، حيث توفي سنة 2011 فقط، لكن اسمه نُسي تماما رغم إسهاماته الكبيرة في علم الفلك.
هذان العالمان المغربيان معروفان للأسف في المشرق وبالكاد تتم الإشارة إليهما عندنا. حتى أن خلية علم الفلك في جامعة “كامبريدج” اعتمدت سنة 1984، تجربة محمد بن عبد الرزاق في التأصيل لطرق رؤية الهلال وطرق الحساب الفلكي، واعتبار الموقع الجغرافي للمغرب.
في سنة 1925 توجه المسفيوي إلى المشرق وبالضبط إلى القاهرة للدراسة، وهناك أصبح اسمه متداولا بين الأزهريين لأنه كان يوظف مؤلف والده لمحاججه كبار شيوخ الأزهر وقتها، وبدا أنه سوف يمضي عميقا في بحر علم الفلك. وقد كان أحد إخوته مستقرا بمصر، مما سهل مقامه هناك حسب ما حكاه لمحمد بن عبد الرزاق بعد ذلك في مراكش.
عاش المسفيوي، الذي كان عمليا أكبر سنا من محمد عبد الرزاق تجربة عصيبة من الناحية السياسية والعلمية، إذ رغم انشغاله بعلم الفلك، وهو العلم الذي ورثه عن والده الذي كان بدوره مؤلفا في هذا العلم، إلا أنه كان في ثلاثينيات القرن الماضي أحد الذين وردت أسماؤهم في اللوائح السوداء لداعمي الحركة الوطنية المغربية. وقبل وفاته سنة 1949 بمراكش، التي دفن بها، تعرض لتجربة السجن مع العالم المغربي المختار السوسي، واعتقل معهما محمد بن عبد الرزاق المراكشي، حيث تعرض الثلاثة لحملة تعذيب نفسي وإبعاد عن الحياة العامة، حيث تم نفيهم ليتفرغ الثلاثة للعلم.
ومن تلك التجربة خرج محمد بن عبد الرزاق متأثرا بالمسفيوي، ليصمم على مواصلة المسار العلمي بعد وفاة أستاذه.
عندما ألف بن عبد الرزاق أحد أهم المراجع العلمية في علم الفلك التي تعتز بها الخزانة المغربية في ستينيات القرن الماضي، أصدر الملك الراحل الحسن الثاني أمرا لكي تتم طباعتها وضمها إلى الخزانة الملكية. وقد كان بعض العلماء من المشرق أثناء حضورهم للدروس الحسنية في ثمانينيات القرن الماضي، يسألون عن محمد بن عبد الرزاق، ليفاجئوا بأن الرجل كان بعيدا تماما عن الأضواء، ولم يكن يتسابق على الفوز بشهرة من وراء اختصاصه العلمي بقدر ما كان منزله مفتوحا أمام طلبته المحليين الذين كانوا يقدرون قيمته العلمية.
كان محمد بن عبد الرزاق على صلة وطيدة بالعالم المغربي محمد العربي العلوي، إذ كان يزوره بشكل دائم في مراكش خلال خمسينيات القرن الماضي، حيث كان يجمتع مع وزير الأوقاف وقتها، العلامة المختار السوسي، ويشكلون معا جلسات علمية للنقاش في العلوم بمعية عبد الجليل بلقزيز وإبراهيم الإلغي وأحمد بن فاضل. وقد أورد المختار السوسي في سيرته الذاتية بعض الإشارات إلى تلك الجلسات العلمية، حيث أثنى كثيرا على محمد بن عبد الرزاق، الذي كان يخوض في سجالات أدبية، حتى يظن مجالسوه أنه أديب وفقيه، وعندما ينتقل إلى الحديث عن علم الفلك، يسود صمت رهيب في “القبة” التي اعتادوا عقد اللقاءات تحتها، ليحدثهم عن أسرار تحركات النجوم والمواقيت المرتبطة بهذا العلم.
التهامي الوزاني صاحب أول رواية مغربية سنة 1942
رغم أنه في شبابه كان متأثرا بالطرق الصوفية والزوايا، إلا أن التهامي الوزاني ظلم مرتين. الأولى عندما غاب من يجمع مقالاته السياسية التي أبان فيها ما بين سنوات 1940 و1950 قدرة كبيرة على التحليل، واندثرت مع اختفاء تلك الصحف التي كان يصدرها مثل “الريف” أو التي ساهم فيها مثل “االحرية”. حيث كان يكتب مقالات في الفكر الإسلامي، وأخرى في تحليل الوضع السياسي لمغرب الحماية.
أما المرة الثانية التي ظلم فيها، فهي وقوع الخلط بين اسمه وبين محمد بن الحسن الوزاني، مؤسس حزب الشورى والاستقلال.
إذ بعد وفاة التهامي الوزاني، غاب اسمه عن الساحة الفكرية والسياسية رغم أنه كرّس حياته للتأليف، وكثيرا ما خلط الأكاديميون بين اسمه وبين مؤسس حزب الشورى والاستقلال في كثير من المناسبات.
وُلد التهامي الوزاني سنة 1903 في أسرة متواضعة الحال، بعكس جل الذين مارسوا الفكر والسياسة والأدب في تلك الفترة، إذ كان مصير أبناء الفقراء والطبقات العادية، أن يبقوا بعيدين عن مجال التحصيل العلمي.
ألف التهامي الوزاني كتابه “الزاوية” الذي اعتبره النقاد المغاربة أول رواية مغربية تصدر باللغة العربية، وقد ألفها سنة 1942 حيث حكا فيها عن جزء من مذكراته الخاصة.
بدا واضحا في كتاباته أنه كان متأثرا كثيرا بالريف ومنطقة تطوان، حيث أطلق اسم “الريف” على أول صحيفة أشرف على إصدارها.
ورغم أنه توفي سنة 1972، إلا أن التهامي الوزاني ظل مُبعدا عن المشهد السياسي والفكري في المغرب، حتى أن أرشيفه لم يُرتب بصورة تليق بإسهاماته المبكرة، إذ كان أحد أوائل الشباب المغاربة الذين كتبوا في الصحافة.
كان أيضا من أوائل من أصدروا الموسوعات العلمية في المغرب، إذ أنه وفي سن 37 سنة فقط، ألف سنة 1940 “تاريخ المغرب” في ثلاثة أجزاء، واعتبر مؤلفه وقتها من أوائل الدراسات التوثيقية لتاريخ المغرب.
كما أن أرشيفه الخاص، وثّق بصورة نادرة لانطلاق المقاومة المغربية المسلحة في الشمال، حيث أعد ورقات بحثية في الموضوع، ورغم أنها لم تنشر إلا بعد وفاته بعشر سنوات (نشرت سنة 1980 بعد أن انتهى من كتابتها وتوفي سنة 1972، ليتولى الباحث المغربي محمد بن عزوز تحقيقها وتدقيقها ونشرها) إلا أنها اعتبرت من بين أولى الإسهامات العلمية في التوثيق لمرحلة المقاومة في الشمال.
كما أنه لم يهتم بتاريخه الشخصي، إلا من خلال سيرته الذاتية “الزاوية”، بينما عكف على تسجيل سيرة عدد من الشخصيات، حيث ألف “خمسون سنة صحبة آل بنونة”، و”مذكرات عن مؤسيي الحركة الوطنية: ذكريات عن الصديق محمد بن مصطفى أفيلال”. حيث اعتبرت تلك السلسلة أحد االمشاريع الأخيرة للراحل وغير المكتملة، حيث كان يخطط لجعلها سلسلة كتب تتناول حياة مؤسيي الحركة الوطنية الفعليين والمنسيين، إلا أن المنية حالت بينه وبين المشروع.
وقد نظمت ندوة نادرة عن حياته في تطوان، بعد أن قرر بعض من عرفوه إخراج اسمه من دائرة النسيان في أبريل سنة 1987، حيث وصفه إبراهيم الخطيب، أحد المتدخلين في الندوة، بالقول: “يبدو أن التهامي الوزاني كان شخصية منفتحة ذات نصيب لا بأس به من التمرد. الأمر الذي يفسر ميله إلى التصوف من جهة، وقطيعته على مستوى السلوك والرؤية للعالم مع الجيل المحافظ الذي سبقه، من جهة أخرى.
وفي هذا الصدد يمكن أن نذكر أنه كان على صلة وثيقة ببعض رهبان البعثة الكاثوليكية في تطوان، يحاورهم ويناقشهم في مسائل الدين والغيب، كما كان كثير التردد على قاعات السينما رفقة زوجته في وقت كان ارتياد السينما واصطحاب الزوجة أمرين يثيران غبار الفضيحة”.