أشعر دائما بأن المنافسة الثقافية بين الفرانكفونية والأنغلوفونية تنعكس مباشرة على العلاقات الفرنسية الأمريكية، إذ إن فرنسا دولة بلا وريث قوي، فيما تمتلك المملكة المتحدة امتدادا فاعلا وقويا بوجود الولايات المتحدة الأمريكية، وهو امتداد فكري ولغوي، لذلك فإن العلاقة بين بريطانيا وفرنسا ذات انعكاس مباشر على العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، إذ إن واشنطن هي الوريث الطبيعي للوجود البريطاني، سياسة ودبلوماسية وثقافة. ولقد وعى الفرنسيون في العقود الأخيرة أن الولايات المتحدة الأمريكية رصيد قوي لبريطانيا، بينما تفتقد فرنسا ذلك الرصيد، بل تشعر دائما بأنها متفردة عن غيرها، لذلك تعطي اهتماما كبيرا بالثقافة الفرنسية في سياستها الخارجية، وهى تدرك جيدا أنه ليس لها من وريث داعم وقوي، بل إن التقدم التكنولوجي قد أضاف عليها عبئا سلبيا يتمثل في ثورة الاتصالات والطفرة الهائلة في مجال التواصل الاجتماعي، معترفين بأن لغة الكمبيوتر الأولى هي الإنجليزية، بينما تستأثر الثقافة الفرانكفونية بأنها لغة الفلسفة والفكر والأدب، لذلك فإن الخلاف الذي يثور بين باريس وواشنطن من حين لآخر ليس خلافا سياسيا، بقدر ما هو خلاف ثقافي وفكري له جذوره الضاربة في أعماق التاريخ الأوروبي، وتواصله مع العالم الجديد الغربي الأطلنطي، ويرجع الفضل إلى شخصية شامخة وقامة عالية شكلا وموضوعا، وأعني بها شارل ديغول الذي حاول تجسيد شخصية فرنسا في مراحل تاريخها الصعبة، سواء في أثناء الاحتلال النازي، أو في أزمة الجزائر، فكان ديغول هو المنقذ في الحالتين وهو ضمير فرنسا الحقيقي، وهو الذي أدرك مبكرا أن السياسة الأمريكية ليست متسقة تماما مع سياسات دول غرب أوروبا، وفى مقدمتها فرنسا، لذلك فهو الذي زرع التقليد الدائم الذي جعل لباريس مواقف مستقلة في السياسات الدولية والإقليمية، كما أنه هو الذي جعل لبلاده شخصية تتمتع باستقلال نسبي في المواقف تجاه الأزمات العالمية والمشكلات الدولية، لذلك فإنه يصعب الحديث عن طبيعة علاقة فرنسا بالسياسة الأمريكية، وربما كانت التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي ماكرون امتدادا لذلك النهج الذي بدأه الفرنسي العملاق شارل ديغول، إذ ليس ماكرون هو أول فرنسي يتمرد على السياسة الأمريكية، بل سبقه رؤساء آخرون أتذكر منهم فرانسوا ميتران وجاك شيراك، خصوصا عندما اختلف الموقف الفرنسي مع السياسة الأمريكية في الحرب على العراق، وتندرت واشنطن وقتها بأن دول غرب أوروبا تبدو أمامها وكأنهم (عواجيز الفرح)، ولقد أصبح هناك تقليد تكرر كثيرا تبرز من خلاله خلافات بين باريس وواشنطن على الساحتين الدولية والأوروبية، وحدثت الحرب الأوكرانية الروسية، وظهر الخلاف الطفيف لوجهتي النظر بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، حتى إن ماكرون هو الذي تولى زيارة موسكو والحوار مع الرئيس الروسي بوتين، برغم الاعتراف بالخلاف بينهما، فإنه هو صاحب العبارة التي تقول (يمكن هزيمة روسيا، ولكن لا يتعين سحقها)، مشيرا إلى الكبرياء التاريخي للدب الروسي في المعارك العسكرية والدبلوماسية معا، بينما زار رئيس وزراء بريطانيا حينذاك، بوريس جونسون، أوكرانيا على الجانب الآخر في مشهد داعم لها لمواجهة موسكو، بل وذهب الرئيس الفرنسي في زيارة رسمية إلى بكين في محاولة لقراءة الموقف العام لجمهورية الصين تجاه النزاع الروسي الأوكراني، لذلك فإن التصريح الأخير للرئيس الفرنسي ماكرون عن أن أوروبا الغربية ذات شخصية مستقلة لا تتطابق دائما مع الرؤية الأمريكية، هو تصريح يعكس المعاني التي طرحناها في السطور السابقة. إن ما نريد أن نؤكده، هو أن العلاقات الفرنسية الأمريكية هي علاقات تتسم بقدر من الندية، تحتفظ فيها باريس بآراء مستقلة ومواقف قد تختلف – ولو في التفاصيل – عن واشنطن، وذلك لا ينفي بالطبع أن الغرب غرب في مجمله، وأن هناك قواسم مشتركة في الثقافة والفكر والسياسة بين دول المنظومة الغربية مهما اختلفت بعض التفاصيل، لذلك فإن ما لاحظته شخصيا في أثناء عملي مع الرئيس المصري الراحل مبارك، وخلال الزيارات المتبادلة مع الرئيس الفرنسي، كان واضحا على الدوام أن السياسة الفرنسية ليست تابعة للسياسة الأمريكية، وأنها تتمتع بقدر من حق الاختلاف ومساحة من الحوار البناء الذي أصبح مستقرا في ثقافة الدبلوماسية الفرنسية أمام مختلف القضايا والظروف، وتتسم العلاقات بين القاهرة وباريس بقدر كبير من الاستقرار منذ أن أعلن الرئيس الفرنسي العظيم شارل ديغول في يوليوز 1967 أن فرنسا سوف تقرر موقفها من الصراع العربي الإسرائيلي بإدانة من يبدأ بالعدوان، وقد التزمت فرنسا بذلك وأوقفت شحنات من السلاح كانت إسرائيل تسعى إلى الحصول عليها، ولذلك فإن فرنسا وجه مقبول نسبيا لدى عدد من الدول العربية، في مقدمتها مصر، بسبب تمردها على التبعية للولايات المتحدة الأمريكية، واتخاذها مواقف مستقلة في كثير من الأزمات والمشكلات.
مصطفى الفقي
نافذة:
العلاقات الفرنسية الأمريكية هي علاقات تتسم بقدر من الندية تحتفظ فيها باريس بآراء مستقلة ومواقف قد تختلف ولو في التفاصيل عن واشنطن