حوالي ساعتين قبل انطلاق مباراة المنتخب المغربي ونظيره الكندي، شاءت الصدف أن ألتقي في أحد أجنحة مستشفى ابن رشد في الدار البيضاء، بوكيل أعمال اللاعبين المدعو باحو، النزيل بجناح الأمراض الباطنية بعد معاناة مع المرض. كان يبحث عن مسؤول يمنحه ترخيصا بمغادرة سرير المرض والسماح له بمتابعة مباراة المنتخب الوطني في أحد المقاهي المتاخمة للمستشفى.
حاولت عبثا أن أذكره بإلزامية التقيد بتعليمات الطبيب وبضوابط علاج يفرض على المريض عدم مغادرة سرير المرض، إلا أنه أصر على التخلص من أنابيبه من أجل مشاهدة مباراة للمنتخب الوطني.
كان لابد من تأشيرة طبيب من أجل جلسة مدتها تسعون دقيقة أمام شاشة التلفاز، لاسيما أن الأمر يتعلق بمباراة حاسمة محشوة بعبوات الضغط الناسفة للبرنامج العلاجي، وقد تعيد المريض إلى نقطة الصفر. لكن تحت السترة البيضاء للأطباء والممرضين كان قميص المنتخب المغربي يفضح نواياهم ويكشف رغبة جامحة في توقيف عداد الزمن من أجل مباراة للفريق الوطني. تبين حينها أن المرضى والأطباء سواسية أمام المنتخب الوطني.
استخلص صاحبنا ترخيصا يسمح له، بشكل استثنائي، وبجرة قلم تمكن من متابعة مباراة المنتخب المغربي ضد نظيره الكندي، خارج أسوار المستشفى مع تعهد بتحمل مضاعفات هذا الخروج الاضطراري، قبل أن تبتلعه أحد المقاهي ويعيش داخلها أجواء المباراة بكل حماس، وهو يمني النفس بجولة في كورنيش المدينة لا يستطيع إليها سبيلا.
<span;>كل شيء في المستشفى كان يوحي بأن انتصارا لأسود الأطلس يغني عن عشرات الأدوية، وأن هدفا في مرمى الخصوم له مفعول أقوى من صبيب «الصيروم» وكل المضادات الحيوية والمكملات الغذائية. حتى الذين التزموا بتعليمات الأطباء وتمددوا في فراشهم كانوا يسترقون السمع والنظر لمباراة المنتخب، وفي سرهم يتمنون للاعبيه التوفيق والسداد.
<span;>أحيانا تكون الكرة جزءا من آلام كثير من الراقدين في المصحات، وأحيانا تصبح جزءا من الحل حين تمارس جاذبيتها على الجميع، وأمامها يستوي المريض والطبيب وحارس البوابة وسائق سيارة الإسعاف، في المستشفيات فقط تشعر أن انتصار المنتخب المغربي بلسم لكل الآلام أو على الأقل مسكن لها.
<span;>يعرف مستشفى ابن رشد في الذاكرة البيضاوية باسم «موريس غو» وهو طبيب رئيسي ساهم في علاج المغاربة ضد الأوبئة في عهد الحماية، وقبل أن ينسحب «موريس» ويعوضه ابن رشد، كان الطبيب الفرنسي عاشقا لفريق «الياسام» صديقا للعربي بن امبارك عارفا بشؤون الكرة مؤمنا بأن الرياضة وقاية والوقاية خير من العلاج.
<span;>ليس باحو هو المريض الوحيد الذي التمس من طبيبه تأجيل العلاج إلى ما بعد نهاية المباراة، فقد تقرر في مقبرة بالدار البيضاء إرجاء عملية دفن بسبب المباراة، واضطر أهالي الميت لاستئناف عملية الدفن في ما بين شوطي المباراة بأذهان مسافرة إلى الدوحة.
<span;>ولأن مباريات الفريق الوطني لا تقبل الإرجاء، فإن المواكب الجنائزية التي تزامنت مع مباراة المنتخب وكندا عانت من ضعف عدد السائرين خلف النعش، بل إن بعضها اكتفى بمشاركة أقرب المقربين للميت الذين التمسوا للغائبين عشرات الأعذار.
<span;>تمكنت مباراة المنتخب من تأجيل حصص دراسية وإلغاء اختبارات مهنية وخلق ارتباك واضح في حركة سيارات نقل التلاميذ، ووجد الحراس العامون إحراجا في كتابة استفسارات الغياب لأنه مبرر، بل إن عدوى الغياب امتدت إلى مجلس النواب والبلديات والمرافق الإدارية.
<span;>وحدها بنادق وفوهات مدافع الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا ترفض الصمت، وتصر على التغريد خارج سرب «المونديال»، رافضة نداء رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم الداعي إلى وقف إطلاق النار من أجل الإصغاء لنبض كأس العالم.
حسن البصري