شوف تشوف

الرأيشوف تشوف

العلاج بالتدبر

أحد الحجاج المصريين الناجين من حادث التدافع عاد إلى الحياة لكي يحكي مشهدا مرعبا يذكر بمشهد يوم الحشر، فقد كتب أن التدافع دام زهاء ساعة من الزمن، وأن كثيرا من الحجاج سقط عنهم إحرامهم فظلوا عراة كما ولدتهم أمهاتهم لكن لا أحد كان ينظر إليهم لأن كل واحد كان مشغولا بحاله، وذكر أن هذا المشهد يشبه مشهد يوم القيامة عندما يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، ويقول الحاج المصري إنه وسط الزحام الخانق شعر بقرص في قدمه فانتبه فإذا به يرى حاجة تحاول شد انتباهه إلى أنها مازالت حية، لكن انشغاله بحاله أغناه عن الانشغال بحالها فماتت تحت الأقدام.

فإذا كان هذا حال القوم مع ساعة من التدافع فكيف سيكون حالهم في يوم يبلغ مقداره خمسين ألف سنة هو يوم الحشر ؟

أشياء كثيرة تحتاج منا وقفة تأمل وتدبر، لكن الحياة بزحمتها وتدافعنا فيها تنسينا الأهم.

أهم ملف قرأته في الأيام الأخيرة يتعلق بصناعة ثقيلة شرعت الهند في تصديرها نحو العالم وفتحت مراكز لتكوين خبراء في هذه الصناعة الثقيلة التي تدر عائدات خيالية على خزينة الدولة الهندية.

لا يتعلق الأمر بصناعة مفاعلات نووية أو أسلحة دمار شامل، بل يتعلق الأمر برياضة اليوغا.

فالعالم اليوم بسبب المشاكل النفسية المترتبة عن الضغط والركض اليومي دون توقف وراء النجاح والشهرة والمال أصبح مصابا بمرض عضال اسمه “الستريس”، وعلاج هذا المرض يوجد في شيء واحد هو التأمل والاسترخاء والتدبر في خلق الله.

للأسف نحن المسلمون لا نوظف الأمر الإلهي المذكور في القرآن والذي يحثنا على التدبر والتأمل في أنفسنا وفي العالم من حولنا، ولذلك نسعى نحو علاجات بالأدوية لحالات الكآبة والضغط النفسي، والحال أن العلاج الرباني موجود ولا يكلف شيئا آخر سوى استقبال القبلة والدخول في حالة تأمل وتدبر في قدرة الخالق وعظمته.

تعطينا الحياة دروسا عميقة كل يوم، لكن جهلنا وجشعنا وتعلقنا بمظاهر الحياة الفانية يعمينا عن رؤية الأشياء المهمة في هذا الوجود. نعتقد أن المال هو كل شيء فنسعى وراءه، ثم تعمينا الشهرة بأضوائها فننساق وراء بريقها الكاذب، إلى أن نكتشف ذات يوم أن الحياة خدعة، وأن هذه الخدعة انطلت علينا.

لذلك فالحقيقة الوحيدة التي توجد على هذه الأرض هي الموت، وأبلغ عبارة تلخص هذا المشهد المروع هي مقولة علي رضي الله عنه “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”.

والخوف من النهاية أصبح مرض العصر، وهو خوف يعكس درجة الإفلاس الروحي الذي وصل إليه العالم، وكيف أصبح هذا الإفلاس سببا مباشرا لاغتناء المتاجرين به.

إنهم يغذون الخوف من الأنفلونزا لكي يبيعوا احتياطي التلقيح للدول بملايير الدولارات، ويغذون خوف الدول من بعضها البعض لدفعها لعقد صفقات السلاح تحسبا للحروب، ويغذون مخاوف الأفراد من مجرد أفكار لكي يحولوهم إلى مواطنين مذعورين خائفين وبالتالي يصبحون أدوات طيعة قابلة لتقبل أشد القوانين حماقة.

وهذه المخاوف هي الأصل التجاري لشركات التأمين التي تتاجر بمادة الخوف وتستثمرها في البنوك وتتعهدها بالرعاية في البورصات العالمية.

وهذا الخوف يعكس قلقا بشريا عميقا وفراغا روحيا حول الإنسان إلى كائن يرفض فكرة النهاية ويحاول بكل الوسائل الفرار منها والتشبث بالحياة مهما كلف الثمن.

وكأن الناس لا يريدون أن يفهموا أن كل واحد منا يحمل معه حكما بالإعدام منذ ولادته، ويبقى قرار تنفيذه مسألة وقت لا غير. ففي النهاية كلنا سينفذ فينا هذا الحكم ذات يوم عندما يحين الموعد المكتوب في ألواح الغيب.

ولو تأمل الناس جيدا في بعضهم البعض لشاهدوهم على هيئة محكومين بالإعدام يلبسون بذلة برتقالية يسيرون في حي طويل للإعدام اسمه الحياة.

لقد كنت دائما مقتنعا بأن أصل مشاكلنا نحن المغاربة، كما هو الحال مع بقية الأمم الأخرى، هو الخوف. الخوف من فقدان قريب، الخوف من فقدان منصب شغل، الخوف من المرض، الخوف من الموت، الخوف من انتهاء علاقة بالطلاق، أي بالنهاية سلسلة لا متناهية من المخاوف والهواجس التي تنتج عنها أمراض نفسية وعضوية لا تعد ولا تحصى.

ولذلك فإن الجميع يرى أن الحل للانتصار على مخاوفه هو إخضاع الآخر، الزوجة تبحث بكل الوسائل لإخضاع الزوج حتى ولو تطلب الأمر اللجوء إلى السحر والشعوذة، الزوج يسعى لإخضاع الزوجة والأبناء حتى ولو تطلب الأمر تعنيفهم، الرئيس يسعى إلى إخضاع موظفيه والموظفون يسعون لإخضاع رؤسائهم.

وهكذا فالعلاقة الوحيدة التي نسعى لبنائها مع الآخر هي إخضاعه والتحكم فيه لتفادي مواجهة التصالح والتعايش معه وقبوله كما هو.

والحل الوحيد للتخلص من هذه المخاوف والانتصار عليها هو مواجهتها، وأكبر وأهم مواجهة يمكن أن يعيشها الإنسان هي مواجهة النهاية والموت بالتدرب عليه والاستعداد له.

وفي المغرب أناس أثرياء يدفعون مقابل حصص في اليوغا والتأمل البوذي ألف درهم للساعة من أجل الاسترخاء والتخلص من الإرهاق والحصول على الصفاء الذهني والروحي.

فهؤلاء الأثرياء، من فرط كثرة الأموال التي يحصونها كل يوم في حساباتهم، يصابون بالأرق والوسواس الخناس والخوف المرضي من أن يستفيقوا ذات يوم فيجدوا أن ثروتهم ذهبت مع الريح. فهم يجهلون، من فرط غبائهم، أن الثروة الحقيقية للإنسان هي الأفعال الطيبة التي ترافقه إلى القبر عندما يغادر هذه الدنيا الفانية.

والفقر الحقيقي ليس فقر الجيب إلى المال وإنما فقر القلب إلى الإيمان. وهؤلاء الأغنياء الأغبياء، الذين تعد ثرواتهم بالملايير، سيظلون فقراء طيلة حياتهم مادامت جيوبهم منفوخة بالمال وقلوبهم فارغة من الرحمة وحب الآخرين.

اذهب إلى أول صيدلية في حيك واسأل صاحبها عن الدواء الذي يطلبه المغاربة بكثرة، سيقول لك إن الجميع يطلب أدوية للجهاز الهضمي والعصبي والمهدئات. والسبب هو أن المغاربة، في غالبيتهم العظمى، يعانون من القلق والخوف. القلق من المجهول والخوف من الفقر والمرض والموت.

وهذا ما يتسبب لأغلبنا في أمراض نفسية وعضوية تبدأ بالهواجس والأمراض المتخيلة وتنتهي بالضغط المؤدي إلى أمراض القلب والشرايين وقصور الكلى واختلال وظائف الجسد بأكمله. فالقلق والخوف المرضيان هما سبب أغلب الأمراض التي يعانيها المغاربة اليوم. وعلاج هذين المرضين لا يمكن أن يتم سوى بمواجهة رأس هذه المخاوف، وهو الخوف من الموت.

هناك مغاربة أصبحوا يخشون النوم مخافة أن يموتوا وهم نيام، ولذلك يصابون بالأرق المزمن الذي يقرب المسافة بينهم وبين الموت الحقيقي كل يوم. وآخرون يصيخون كل ليلة السمع لخفقان قلوبهم ويعدون، لساعات طويلة، نبضهم باحثين عن اختلال وهمي في ضربات القلب. وعندما سنتخلص من هذين الهاجسين، يمكن أن نبني مجتمعا واثقا من نفسه، يعرف أفراده هدف وجودهم على هذه الأرض ويستعدون لما ينتظرهم في العالم الآخر عندما تحين ساعة الرحيل.

إن استحضار الموت والنهاية يجعل الإنسان يشعر بالقيمة الحقيقية للحياة، يستمتع بها ويستغلها لفعل الخير لنفسه وللمحيطين به، ينشغل بترك أثر طيب يدل عليه، يفكر في تسوية ديونه، في إصلاح أخطائه قبل فوات الأوان.

لذلك، فاستحضار الموت ليس حالة مخيفة أو محزنة دائما، بل يمكن أن يكون حالة إيجابية تعطي شحنة إضافية للإقبال على الحياة بنهم أكبر.

ولو استحضر المغاربة، بفقرائهم وطبقاتهم الوسطى والغنية، بحاكميهم ومحكوميهم، معاني استحضار الموت والتخلص من الخوف المرافق له، لارتفعت وتيرة الإقبال الجدي والإيجابي على الحياة، ولتناقصت وتيرة الانتحار الجماعي غير المعلن الذي نعيشه يوميا. ففي مقابل الخوف المرضي من الموت والحرص على الحياة بأي ثمن، بما يسببه من قلق وتوتر وضغط عصبي، هناك إقبال مرضي على الانتحار بشتى الوسائل، الانتحار على الطرقات بسبب التهور في السياقة، وفي الأسواق بسبب التفاهات، وداخل الأسر بسبب غياب التفاهم والحوار والدفء الأسري، وأمام أبواب المستشفيات بسبب غياب الرحمة.. إلى الحد الذي أصبحت معه الروح في المغرب أتفه من جناح بعوضة.

والحل الوحيد للخروج من هذه الدوامة بسيط وغير مكلف. على كل واحد منا أن يغلق عينيه لعشر دقائق ويسأل نفسه ماذا فعل في ماضيه وماذا يفعل في حاضره وماذا سيفعل في مستقبله. وهل أفعاله تدخل في خانة الخير أم الشر. وعندما يعود كل واحد منا لفتح عينيه من جديد يكون قد قرر طي الصفحة بهدوء وتصالح مع ذاته، من أجل حياة أفضل في انتظار العبور إلى الضفة الأخرى حيث وحدها الأعمال الطيبة يسمح لها بمرافقة أصحابها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى