العقوبات كسلاح في القانون الدولي
مدى الفاتح
مع ولادة «عصبة الأمم» بعد الحرب العالمية الأولى، تم التفكير في تشريع أعمال المحاصرة والمقاطعة، التي كانت معروفة في تاريخ الصراعات البشرية، بهدف تحويلها لعقاب يمكن توجيهه ضد كل من يهدد الأمن والسلم الدوليين.
بحسب ما تم النص عليه في مواد عصبة الأمم، فإن هذا التقنين للعقوبات الدولية كان يهدف إلى تلافي الحروب والنزاعات، عبر فكرة تهديد من يهدد «الأمن الجماعي». وفقا لهذا تمت معاقبة إيطاليا عام 1935. الطريف أن تلك العقوبات، التي كانت بسبب الاحتلال الإيطالي لإثيوبيا، لم تنجح في تحقيق المطلوب منها، وهو تغيير سلوك إيطاليا، كما أنها لم تنجح بشكل عام في جعل الحروب شيئا من الماضي. حينما ولدت الأمم المتحدة، كان منظروها وواضعو تعهداتها الجديدة يحاولون الاستفادة من التجربة السابقة الخاصة بالعقوبات، فكانوا يتفقون مع ما أقرته «العصبة» من كون العقوبات قد تكون وسيلة ردع مفيدة، لكن ما كان مطلوبا هو الإجابة عن السؤال التالي: كيف نعرّف الفعل الخطأ الذي يشكل تهديدا؟ ومن هو المخول بذلك التعريف؟
لم يخضع الأمر لكثير من النقاش، حيث حسمت الدول الكبرى المنتصرة في الحرب الأخيرة الأمر، بابتكار ما سيعرف بمجلس الأمن الدولي، الذي يضم خمس دول دائمة العضوية فيه. هذه الدول يجب أن تتخذ قرارها بالتوافق، قبل الشروع في تنفيذ أي عقوبة، أو اتخاذ أي إجراء ضد أي طرف.
لم يكن هذا التقنين متفقا عليه بين جميع الدول منذ البداية، فالدول التي خسرت الحرب كألمانيا وحلفائها العثمانيين وكذلك العشرات من الدول، التي كانت لا تزال ترزح تحت السلطات الاستعمارية، كل تلك لم يأخذ برأيها أحد، لكنها لم تلبث أن انضمت إلى ذلك النادي العالمي بجميع بنوده، بما يشمل الموافقة على تسليم سلطة القرار المتعلق بالأمن والسلم والعقوبات لمجلس الأمن الدولي، الذي لا يحق لهم، كدول أعضاء، اتخاذ أي إجراء ضد أحد من أطرافه أو معاقبته على سلوكه إن أساء التصرف، أو بدأ بالعدوان، ببساطة لأن اتخاذ أي إجراء عقابي أممي يحتاج إلى موافقة جميع أعضاء مجلس الأمن، الذين يملكون وحدهم حق الرفض «الفيتو»، الذي هو أشبه بالورقة الرابحة التي يمكن إخراجها متى ما طرأ احتياج لعرقلة أي قرار.
كما كان متوقعا، فقد تحولت العقوبات الاقتصادية بالتدريج إلى سلاح بيد الدول التي تملك السيطرة على القرار الأممي. هذا التحول الذي ظهر بشكل سافر مع بروز الولايات المتحدة كقوة عالمية أولى، ثم وحيدة بعد سقوط منافسها الاتحاد السوفياتي حول النقاش حول العقوبات من منحاه القانوني، إلى منحى العلاقات الدولية وعالم السياسة، ومع تقنين «العقوبات الأحادية» التي تملك الدول حق تطبيقها بمعزل عن موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، دخلت الفلسفة السياسية نفقا آخر، فرغم أن الدول متساوية نظريا بحسب ما ينص عليه القانون ومنطق التصويت، إلا أنها ليست متساوية فعليا في وزنها، فلا أحد يهتم إذا ما تمت معاقبته من قبل إحدى الدول الصغيرة، أو إحدى الجزر المجهرية المتناثرة في المحيط، في حين تكون العقوبات الموجهة من دولة كالولايات المتحدة مساوية في تأثيرها للعقوبات الأممية، بسبب النفوذ الاقتصادي والتحكم في الدولار، الذي يجعلها تسيطر بشكل شبه تام على حركة المال والتجارة العالمية.
وتعمل الإجراءات العقابية، في غالب الحالات على السيطرة على السيولة النقدية، وعلى غلق الأبواب التي تسهل عمليات التصدير والاستيراد، ما يشكل خنقا تاما لمنافذ اقتصاد الدولة المستهدفة، وهو ما يستكمل برفض المؤسسات المالية الكبرى كالبنك الدولي، أو صندوق النقد إقراضها، بغض النظر عما تقدمه من ضمانات سداد.
السؤال الفلسفي الآخر الذي برز بعد عقود من فشل سياسة العقوبات في تحقيق أهدافها ووقوع تأثيرها بالدرجة الأولى على المواطنين كان في التسعينات مع المأساة الإنسانية، التي خلفتها سياسة العقوبات الشاملة، التي تم اتباعها ضد النظام العراقي آنذاك. إحدى الخلاصات التي تم التوصل إليها كانت، أن العقوبات قد تكون فاعلة في مواجهة النظم الديمقراطية، حيث قد تؤدي إلى الضغط على السياسيين أو سحب الثقة من الحكام، لكنها لن تكون مفيدة أبدا في مواجهة النظم التسلطية، بل على العكس قد تكون مساعدة لها واقعيا.
لا يمكن لأحد أن يجادل في أن للعقوبات الدولية تأثيرات اقتصادية، لكن السؤال لا يزال مطروحا حول ما إذا كانت فاعلة وناجحة في تحقيق الغرض المطلوب منها، في ظل وجود أنظمة امتلكت القدرة على «التعايش» معها.