عبد الإله بلقزيز
العولمة هي الدرجـة الأعلى في امتحان مبـدأ السيادة الوطنيـة ومـدى ما يستطيعه حماية لنفسـه من ديناميـات عاصفـة وزاحفـة على الحدود جميعـها. إذا كان معنى السيادة ينصرف إلى بيان واقـعٍ مادي هـو قدرة الدولـة على امتلاك قرارها.. وبسـط سلطانها على أراضيها وحدودها ومواطنيـها وثرواتـها ومـقـدراتها، فإن العـولمة شرعت في وضـع حدود أمام تلك القـدرة ما تزيـد إلا تعاظما إلى الدرجـة التي يتعسـر معها التسليم بأن في وسـع هـذه السـيادة أن تطـل برأسها على العالم من جديد: نظيـر ما كانت تستطيـعه – جزئـيا – قبل ثـلث قـرن، و«كـلـيـا» قبل نـيـف وقـرن.
لا يكون للعولمـة تجسد مادي إلا في صـورة استباحـات متعاقبـة لكـل الحـدود التي من شأنـها أن تـكبح عمليـة إخضاع العالم كلـه لإرادة القـوة الصانعـة لهذه العولمة. ولقد بدأ عمـل هـذه الآلية منتظـما منذ مطالع العقد الأخير من القرن العشرين. هكذا توالت تلك الاستباحات، ممتطيـة صهوة الثـورات التـكنولوجية في ميـدان الاتـصال (الثـورة الرقميـة)، لِـتُضْعِـف دور أي مرجعيـة داخليـة في البلدان المستباحـة سيادتـها، ولتـؤسس لـ«إدماجٍ إخضاعـي» لها في منظومة السيطـرة العـولميـة في المراكـز. وخلال العقـود الثلاثـة الأخيرة، بتـنا نشهد على ظاهـرة غير مألوفة ولا مسبوقة منذ مئات السنين: انتقال مركز إدارة العلاقات العامـة والخاصـة للمجتمع من الدولـة إلى خارجـها، في شكل تـبدو فـيه الدولـة وكأنـها فـقـدت مركـزهـا، ومعه فـقـدت سلطتها على ما يـقع – نظـريا – في نطاق أحـيازها.
ومع أن كـل استباحـة لسيادات الدول ذات أثر سلبـي في تلك الدول وفـي مجتمعاتها، إلا أن أشـد تلك الاستباحات تطـويحا بالمنظومات الحـمائيـة الذاتـيـة هي التي تتـنـاول الميدان الاقتصادي؛ وبيان ذلك أن العمـدة في استقـامـة أمـر كـل سيادة هي السيادة الاقتصاديـة التي بها ينهـض استقلال قـرار الدولـة، وبـه يتـغـذى استقلال إرادتها الوطنيـة. وإلى ذلك فإن وظيـفة حفظ سيادة الدولـة على اقتصادها الوطـني هي حماية مصالـح طبقاتها المنتجة (عمـال، فلاحـون، صناعيـون، حرفيـون، منشـآت إنتاج…) من استباحة منتوجـات أجنبيـة أسواق الاقتصاد الوطـني على نـحو مجـرد من كـل قيود قانونيـة حمائـيـة؛ أي على النحـو الذي يُـلْحِق أبلغ الأضـرار بالمنتـوج الوطني وبمصالح قـواه الاجتماعية المحليـة. ولعمري تلك أعلى مراتـب التـبعـيـة والعيش على هامـش العالم المعاصـر.
عماد كـل استباحة سياسيـة والمدخـل إليها هي هـذه الاستباحة الاقتصاديـة التي تجعل المستباح – شـعبا وسلطـة – تحت رحمة إملاءات المراكـز العولميـة. هذا لا يعني، بالضرورة، أن البلـدان التي استباحـتها العولمـة اقتصاديـا تُستـباحُ سياسيـا بالتـبِعـة؛ ذلك أن مروحـة العولمة الاقتصاديـة أوسع، وهي لم تمس سيادات الدول في الجنـوب حصرا، بل طالت حتى الميتروپـولات الغربيـة (أوروبا مثـلا)، مع ذلك لم تتـعرض السيادات السياسيـة لتلك الميتروپـولات لما تعرضت له نظيـراتها في الجنوب من انتهاكات صارخة باتت معـها السـيادة واستقلالية القرار أشبه بالسلطـة الرمـزيـة! وهـذا واقع يفسـره أن دول الجنوب ليست شريـكا في صناعـة السياسات العالميـة – مثـل قسـم من دول الغـرب – الأمـر الذي يفرض عليها أن تواجـه سياسات دوليـة شديدة الإجحـاف بحقوقها السياديـة ومقذوفـة في وجهها في شكل إملاءات ليست موضـع مناقـشـة وتفاهـم، وغالبـا ما يجري ذلك باسم القانون الدولـي و«المجتمع الدولي»، مع أن «ميثـاق» الأمم المتحـدة يشدد على وجـوب احترام سيادات الدول الأعضاء فيها وعـدم انتهاكها أو النـيل منها بحسبان ذلك ينال مـن «المجتمع الدولي» وحـرمة قوانيـنه!
جرت، في ما مضى من عقـود، أوسع عمليـات العدوان على السيادات الوطنيـة في مناطـق عـدة من العالم (في الجنـوب والشـرق) باسم حقوق الإنسان وحرمتها. كان ذلك استئنافا لفصل سابـق من ذلك العـدوان على السيادات – اقـتـرن بالاستعـمـار – جـرى تحت عنـوان «إجـراء الإصلاحـات» و«حمايـة القِـلات» من الغالبـيـة السكانـيـة التي من محْـتِـدٍ واحـد. وإذْ أصـبح الانتهـاك المستمـر للسيادات «مألـوفا»، بتعـلـة حماية حقوق الإنسان من السياسات القمعيـة، بات الضـغـط على دول العالـم لتغيير منظوماتها القانونيـة لتتوافـق مع القانون الدولـي مسلكا مفتوحـا على المزيـد من المطالب الممـلاة عليها إملاء لانتـزاع البقيـة الباقـية لها من رسوم السيادة: على شحوبها ورمزيـتها الشكـلية. والأدعـى إلى الاستفهـام والاستغراب أن هـذا المسلسل المتـصل من وقائـع الضغـط على سيادات الدول – باسم حقوق الإنسان – إذْ يذهـب بعيـدا فـي تجريدهـا من بقـايا «السـيادة» لديها، باسم القانون الدولـي، يتجاهل ما تنـص عليه أحكام هذا القانون من وجـوب احترام حـرمة سيادات الدول، وعـدم انتهاكها تحت أي ظـرف، بـل والتـشريع لأحكـام عقابـيـة ضـد من يقوم بمثل ذلك الانتهـاك. إن التـناقـض الصارخ الذي يقوم عليه واقـع السيادة الوطنيـة، اليـوم، هـو ذاك الذي يقوم بين النـص والواقـع؛ أعني هـو الذي يعبـر عنه التـقابـل بين ما ينـص عليه «ميثـاق» الأمم المتـحدة من أحكـام تحفظ لسيادات الدول حرمتها، من جهـة، وما تمارسـه الدول الكبـرى (الولايات المتحدة الأمريكيـة خاصـة) من سياسات منتهـكة لأحكام ذلك النـص القانوني، والقاضيـة بالاعـتياض عنه بـ«مبـادئ» جديدة وبديلة من قبيل مبـدأ «الحـق في التـدخـل»: الذي يسـوغ لها انتهاك السيادات…، بل غـزو ما تشاء من البلدان!
نافذة:
عماد كـل استباحة سياسيـة والمدخـل إليها هي هـذه الاستباحة الاقتصاديـة التي تجعل المستباح شـعبا وسلطـة تحت رحمة إملاءات المراكـز العولميـة