بقلم: خالص جلبي
جاءني ثلاثة شباب حزانى على مصير صدام، قال أوسطهم: المجاهدون كانوا يدافعون عن العراق أكثر من صدام. قلت له: كلامك نصف صحيح. فهزيمة الأمريكان تعني نجاة صدام وعصابته. ومثلنا مثل الطبيب الذي يواجه مريضا مصابا بفصيلتين من الجراثيم، فإن قضى على العصيات المكورة الأمريكية، نجت العصيات العنقودية الصدامية. ولو كان الطبيب حاذقا واستخدم صادا حيويا يقضي به على كلا الفصيلتين، لكان حسنا. ولو كان الشعب مهيئا لثورة تتخلص من صدام وبوش لتحرر حقا، ولكن الصاد الحيوي الذي يقضي على فرقة جرثومية، سيحافظ آليا على الفرقة الأخرى. ففي الوقت الذي تنهزم أمريكا، سيحكم صدام وعائلته العراق 200 سنة أخرى. وإن هزم صدام تم احتلال العراق من الأمريكيين، فهي معادلة ثنائية صعبة!
اعتدل الرجل في جلسته وتحمس أكثر فقال: طالما ضربت المثل الطبي، فما رأيك بمريض ينزف وماذا تفعل له كما كان العراق؟ قلت له: كلامك يظهر نصف الحقيقة، فالمريض دماغه بعثي صدامي وجسمه عراقي. وإذا عالجت الذي ينزف فتحسنت حالته وصحا، فأول شيء يفعله لك أن يسحب مسدسه فيضربك به كما فعل صدام مع الكثيرين.
صدم الرجل وقال: لا.. فالشعوب في النهاية تتحرر، فماذا تقول في الاتحاد السوفياتي ماذا حصل له في النهاية، بدون هجوم أمريكي عليه؟ قلت له: ما تقوله يخفي من الحقيقة أكثر مما يظهر. فالاتحاد السوفياتي انهار داخليا بعد سبعين عاما، وصدام وعائلته قد يحكمان 170 عاما أخرى. إن تُركت الأمور لفعل قوانين الطبيعة. فالنهر يشق مجراه في قرون، ولكن تغيير مجراه بإقامة أعتى السدود لا يحتاج أكثر من عشر سنوات. فهذا هو الفرق بين عمل الطبيعة وتدخل القوى الإنسانية، كما حصل مع التدخل الأمريكي في العراق. وهو لا يعني ترحيبا بالأمريكي، أكثر من استعراض مجرى قانون التاريخ.
وما ينطبق على صدام يسري على عائلات أخرى في المنطقة، حولت الجمهوريات إلى ملكيات ضد مخطط الزمن ومحور التاريخ، ويمكن أن تحكم الشعوب الميتة مائتي سنة، والفاطميون حكموا مصر قرنين من الزمان. فالشعوب كما يقول عالم الاجتماع العراقي «علي الوردي»، عاشت تحت الظلم قرونا كثيرة. والفقر ليس هو فتيل الثورات، كما أن الظلم يقتل النفوس ولا يحرض على الانتفاضات. وهذا النقاش أستحضره في ضوء المحطات الفضائية، التي تتولى تجهيل المواطن في قضية المجاهدين المغفلين، الذين قاتلوا عن نظام صدام، كما خاض المجاهدون المغفلون حربا أمريكية بالنيابة في أفغانستان.
يمتاز (الاحتلال) الخارجي أمريكي أو غير أمريكي بثلاث، بأنه: (واضح) و(مؤلم) و(مقاومته سهلة)، وهو في هذا يشبه (الدمل) الخارجي. أما الاستبداد (الداخلي) من النموذج البعثي، وهو ليس الوحيد في سفاري العالم العربي، حيث تسرح الضواري فهو: (خفي) و(غير مؤلم) و(مقاومته معقدة)، والتخلص منه ممكن في مراحله الأولى، وهو في هذا يشبه (السرطان).
وكلا المرضين من (الدمل) و(السرطان) يحتاج إلى المعالجة. وكلاً من المرضين يعني أن جهاز (المناعة) الداخلي ليس على ما يرام. ولكن (الخرّاج) ينتج عن هجوم جرثومي خارجي. أما السرطان فهو تسلل إلى الكود الوراثي للخلية. وعندما استأصلت أمريكا (سرطان) صدام، فهي إزالة لورم خبيث مع انتشار السرطان. كما في سرطان المعدة وانتشاره إلى الكبد والدماغ. وهذا هو التحدي في وضع العراق في الحقبة ما بعد الأمريكية، حيث نبت من رماد صدام ألف مصدوم ومصدوم.
وعندما ينتشر (السرطان) يتحول البلد إلى (النظام الشمولي)، وتصبح كل معالجة داخلية غير ممكنة. كما حدث في ألمانيا الشرقية، عندما قامت بانتفاضة تم سحقها ولم يكتب لها الخلاص، حتى نضجت الأوضاع بتحلل النظام الديكتاتوري السوفياتي. ومنه في العالم العربي كثير.
وهلاك الأنظمة يخضع (لقانون التاريخ)، كما حدث في العصور الجليدية. فلم يكن للجنس البشري أن يتكاثر ويدخل (الحضارة)، قبل انكسار (العصر الجليدي). وفي الظروف الديكتاتورية ينكمش (الفرد) إلى (رقم)، ويحافظ على وجوده كما تفعل الحيوانات في السبات الشتوي، إلى حين قدوم الربيع، كما حدث مع ربيع العراق، ولم يكن ربيعا، بل هو ربيع كاذب، وأمام العراق قرن آخر حتى يصبح بلدا ينتسب لعالم البشرية.
فهذا الانقلاب في الفصول والتبدل في العصور (الجيولوجية السياسية)، هو الذي يغير الأحوال أكثر من عمل الأفراد والانتفاضات الشعبية.
وفي العراق وغير العراق تصل الأمور إلى وضع الاستعصاء، كما يحصل مع انتشار السرطان. وما يحتاجه للعلاج، هو إما المعالجة (الشعاعية) بالحرق بصواريخ «كروز»، أو الجراحية ببلطة «توما هوك»، كما حدث مع سقوط الضحايا المدنيين في اجتياح العراق الدموي.
ويجب أن نعترف بحذق الجراح الأمريكي، فقد أنهى العملية بنزف قليل، ولكن مشكلة مريض (الجراحة) هي في مرحلة ما بعد الجراحة، بتورطه بالاختلاطات الجراحية، وهو الذي ولج إليه العراق لنصف قرن قادم.
وعندما سأل قوم موسى نبيهم أن العذاب لم يتغير مع قدومه، نبههم إلى (العلة الأساسية)، وهي أن زوال العدو لا يعني زوال المرض. «عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون»، بدليل أن بني إسرائيل بمجرد خروجهم من العبودية، فإن العبودية لم تخرج من قلوبهم وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم. وبمجرد أن رأوا أناسا يعكفون على أصنام لهم، قال: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. قال إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبر ما هم فيهم وباطل كانوا يعملون.
والعرب يكررون قصة بني إسرائيل بأسماء جديدة، والحقيقة الداخلية واحدة. فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام.
نافذة:
النهر يشق مجراه في قرون ولكن تغيير مجراه بإقامة أعتى السدود لا يحتاج أكثر من عشر سنوات فهذا هو الفرق بين عمل الطبيعة وتدخل القوى الإنسانية