هناك رائحة طبخة محترقة تفوح من المطبخ الحزبي المغربي، أو كما يقول المغاربة “كاينة ريحة الشياط”، إلى درجة أن المتتبع لملامح بعض الأمناء العامين للأحزاب السياسية يكاد يخلط ضحكات بعضم بضحكة “الراس المشوط” لخرفان العيد.
ولعل أحد الأسئلة المحيرة التي تواجه المتتبع لهذه الرائحة المنبعثة من المطابخ الداخلية للأحزاب هي كيف انتقلت العلاقة بين وزارة الداخلية وإدريس لشكر الكاتب الأول للاتحاد من سمن على عسل، إلى درجة أن عمال الداخلية في سابقة تاريخية من نوعها بادروا إلى إرسال تهاني لإدريس لشكر بمناسبة فوزه تكلفت جريدة الحزب بنشرها، إلى علاقة عدائية وصلت بلشكر إلى اتهام الوزارة بالعودة بالمغرب إلى سنوات الرصاص، معلنا عن رفضه لنتائج الانتخابات التي اعتبرها مغشوشة.
أما حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، فقد هدد بالاستقالة من مجلس المستشارين والانسحاب الجماعي منه احتجاجا على ما يعتبره تحرش وزير الداخلية به وبعائلته التي تم إغلاق الحدود في وجه فردين منها.
وزير الداخلية، الذي لا ينتمي عمليا لأي حزب، اتهم حميد شباط بابتزاز الدولة للحصول على رئاسة جهة فاس، وبمجرد ما تم تسريب هذه التهمة الخطيرة طالب حزب الاستقلال وزير الداخلية بتوضيحات، وعوض أن يقدم وزير الداخلية توضيحات للأمين العام للحزب اتصل بأعضاء اللجنة التنفيذية واحدا واحدا وشرح لهم أنه لا يستهدف حزب الاستقلال وأنه يملك أدلة على ما قاله. ما يعني في لغة السياسة “نتوما ما معاكومش المشكل، ولكن بعدو لا يطير عليكم الدم”.
ووزير الداخلية معذور في ما يقوم به، فالمسكين ينطبق عليه ذلك المثل الشعبي الذي يقول “اللوحة قالت للمسمار راك فلقتيني، قال ليها المسمار لو كنتي تعرفي الدق اللي فوق
راسي كنتي عذرتني”.
وزير العدل وما تبقى من حريات، الذي كان مشرفا قانونيا على الانتخابات، يقول إن هذه الانتخابات التي أشرف عليها عرفت استعمالا مفرطا للمال، لكن “الزغبي” لا يملك أدلة على ذلك، أي أن وزير العدل يكيل اتهاما خطيرا لكل الأحزاب المشاركة في الانتخابات دون أدلة.
عندما نصنع نحن الصحافيون ذلك نساق إلى ساحات القضاء ويتم الحكم علينا بالسجن بتهمة التبليغ عن جرائم نعلم بعدم حدوثها، أو الوشاية الكاذبة، وعندما يفعل ذلك وزير العدل، المفروض فيه السهر على احترام القانون، تصفق له الجرائد والمواقع وتنقل تصريحه دون التوقف عند خطورته.
وإذا كان وزير العدل قد ظل فضفاضا في اتهامه، فإن سعد الدين العثماني رئيس المجلس الوطني للحزب الحاكم كان أكثر تحديدا عندما قال إنه يعرف شخصا صرف مليارا لاستمالة ناخبين.
السؤال البسيط الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو لماذا لم يتم استدعاؤه للاستماع إلى إفادته بخصوص هذا الاتهام الخطير، ولماذا لم يبلغ العثماني عن هذه الرشوة عبر الخط الأخضر لوزارة العدل ؟
إذا كان العثماني يعرف شخصا صرف مليار لاستمالة ناخبين ولم يبلغ عنه فهذا يسمى التستر عن جريمة. وإذا لم تتحرك النيابة العامة لاستدعاء سعد الدين العثماني لمطالبته بتنويرها بالمعطيات التي لديه بخصوص هذه الجريمة فهذا اسمه تعطيل القضاء والتواطؤ مع الفساد.
والحقيقة يا معالي وزير العدل فليست الأدلة هي ما يعوزكم لإحقاق الحق بل ما يعوزكم هي الشجاعة السياسية.
وهي الشجاعة السياسية نفسها التي افتقدتموها وأنتم تنظرون عاجزين للشرطة وهي تستدعي بعد منتصف الليل المتهمين باستعمال المال في الانتخابات بناء على تسجيلات صوتية بينما انتخابات رئاسة مجلس المستشارين في أوجها، والصراع حولها بين حزب الاستقلال والأصالة والمعاصرة على أشده.
رأيتم كيف نشرت وزارة الداخلية بلاغا في الليل ذكرت فيه الأسماء الكاملة للمتهمين، الذين مازالوا أبرياء إلى أن تتم إدانتهم، فأين هي قرينة البراءة يا معالي الوزير في هذه النازلة ؟
ثم أليس مثيرا للاستغراب اقتصار المتابعة على مرشحي مدينتين هما أكادير وفاس ؟ أليست تلك رسالة مبطنة إلى شباط الذي شبه وزير الداخلية بأوفقير، ولقيوح الذي رشحه شباط لرئاسة مجلس المستشارين والذي ينحدر من سوس ؟
إن وزير العدل الذي أمر بعدم تحريك مسطرة المتابعة القضائية وتلقي الشكايات، ضد رؤساء الجماعات والمستشارين، إلى حين الانتهاء من الاستحقاقات الانتخابية، مع تأجيل مجموعة من القضايا التي أنهت مصالح الدرك والأمن البحث فيها ضد بعض الرؤساء الجماعيين، إلى حين الانتهاء من الانتخابات، هو نفسه من يقف عاجزا عن تأجيل متابعة المتهمين بالفساد الانتخابي أسبوعا واحدا إلى غاية انتهاء انتخاب رئيس مجلس المستشارين.
وحتى حزب الحركة الشعبية، حزب المشوي وأحيدوس، قرر هو أيضا أن يضع “شريحتو فالشريط” فكلف المرأة القوية داخل دواليبه حليمة العسالي بتسريب معلومة غريبة تقول إن بنكيران اجتمع بنساء مرشحي حزب الحركة للاستوزار من أجل جمع معلومات حول رجالهم، وهي المعلومة التي لم يكذبها رئيس الحكومة.
ويبدو أن تقارير داخلية حصاد لم تعد كافية بالنسبة لرئيس الحكومة لكي يتجسس على مرشحي حلفائه الراغبين في دخول حكومته بل أصبح يستعين بوزارة الداخلية الحقيقية التي هي الزوجة. ولذلك فعلى كل من يخطط لتقديم ترشيحه لدخول الحكومة أن يعرف أن رأي زوجته سيكون حاسما في تحديد معالم مستقبله السياسي، والنصيحة التي يمكن توجيهها لهؤلاء هي “ديرو زوين مع عيالاتكم، راه الرابح من المرا والخاسر من المرا”. على الأقل قبل الاستوزار، لأن الأيام كشفت أن بعض الناس بمجرد ما يجلسون فوق كرسي الوزارة حتى يغيروا زوجاتهم بأخريات، ومثال “شوشو” و”سوسو” ليس ببعيد.
ضحكة “الراس المشوط” لا تقتصر فقط على أحزاب المعارضة بل إن الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، الجناح الشيوعي للعدالة والتنمية، قال بدوره إن انتخابات 2 أكتوبر أفسدها المال وأنه ليس مفتش شرطة لكي يقدم الحجج، وكأن مفتشي الشرطة هم الذين يأتون بالحجج وليسوا هم من يستنطقون المدعين بحثا عنها.
ولكي يختم كلامه بالمسك فقد دعا إلى حذف مجلس المستشارين، عملا بالحكمة القائلة “الباب اللي يجيك منو الريح سدو واستريح”. وطبعا ليس المقصود بالريح تلك الرياح الغليظة التي تنتشر في المجلس بسبب نزول بعض المستشارين إلى الدركات السفلى للنوم، بل رياح التغيير التي قد تجعل من حزب الاستقلال في القريب المنظور حليفا للعدالة والتنمية على حساب التقدم والاشتراكية.
حزب العدالة والتنمية في نهاية المطاف هو المستفيد من احتراق الطبخة الانتخابية في مطبخ الداخلية. وها نحن نسمع وزير العدل مصطفى الرميد يقول بأن حزبه سيتحالف مع الأصالة والمعاصرة عندما يغير هذا الأخير موقفه من حزبه. مما يفيد بأن فكرة التحالف مع الحزب الذي لطالما صوروه للمغاربة على أنه أصل كل الشرور ليست مرفوضة من أصلها، بل إنها أضحت أعز ما يطلب.
وهم عندما يتحدثون عن تغيير الموقف فهم يقصدون تغيير الأشخاص، والرأي الغالب داخل الحزب الحاكم هو تعويض إلياس العماري و”خيال الظل” الباكوري برئيس جهة مراكش، أحمد خشيشن على رأس الحزب. آنذاك يمكن للتحالف بين العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة أن يرى النور، وهذا هو التفعيل الحقيقي لمقولة بنكيران “عفا الله عما سلف”.
وقد قالها “منظر” الحزب عبد العالي حامي الدين عندما كتب بأنهم في الحزب متفقون على عدم التحالف مع الأصالة والمعاصرة طالما أن الحزب بيد إلياس العماري. وقد كانت رسالة بنكيران واضحة عندما أرسل حامي الدين لكي يترشح في مسقط رأس الطالب اليساري آيت الجيد، الذي يتهم محامو الأصالة والمعاصرة حامي الدين بالتورط في اغتياله.
وانتقام بنكيران لحامي الدين بترشيحه في مسقط رأس بنعيسى آيت الجيد شبيه باستدعاء حركته الدعوية للداعية محمد العريفي، الذي حرض الشباب للذهاب إلى سوريا للقتال ومنع ابنه من ذلك، لإلقاء محاضرة في قاعة شهيد اليسار المهدي بنبركة، ردا على استدعاء يساريي الأصالة والمعاصرة للقمني لإلقاء محاضرة والتقاط صورة غذاء معه في عز رمضان.
لقد كنت دائما مقتنعا بأن أقصى ما يحلم به عبد الإله بنكيران هو أن يقبل به حزب الأصالة والمعاصرة حليفا إلى جانبه. وكل العنتريات التي سمعناها خلال الحملة الانتخابية الأخيرة وتلك التي قبلها، حيث كال فيها بنكيران أقذع النعوت للأصالة والمعاصرة، لم تكن في الحقيقة سوى نوع من عتاب العاشق المتيم.
ولسوف تكشف الأيام عن مخرجات هذا الحب المازوشي الذي يبدو في ظاهره كرها فيما هو في الحقيقة عشق وولع لا حدود له، كان ضروريا لإنضاجه استعمال حزبين كبيرين هما الاستقلال والاتحاد الاشتراكي تم تذويب ملحهما في كأس إلى أن تفتتا وأصبحا أثرا بعد عين.
وهكذا فما يحدث في المطبخ السياسي هذه الأيام يلخصه المثل الشعبي المغربي القائل “العروسة للعريس والجري للمتاعيس”، وطبعا لسنا في حاجة لتحديد من هما العروسان ومن هم “رباعة المتعايس” الذين وقع لهم ما يقع عادة لبندير البنات، “بَعْدْمَا يَشْبَعْ دق يْتْعَلَّقْ”.