شوف تشوف

الرأي

العرب وإسرائيل.. الدراما المستحيلة

سامح المحاريق
كان مشروع «اعرف عدوك» أحد الإسهامات النظرية في بناء تصورات عن اليهود والصهيونية وإسرائيل، فهذا المشروع الفكري أتى لتقديم صورة عن المجتمع (الإسرائيلي)، وعن المقدمات التي أدت إلى تشكيله، أي التاريخ اليهودي والاستعماري السابق، وأسهمت مؤلفات كثيرة لجمال حمدان وعبد الوهاب المسيري في الستينيات من القرن الماضي، في تقديم أطر علمية للفصل بين هذه المفاهيم وتوضيحها، إلا أن الضجر العربي التقليدي بالدقة والتحديد، أدى إلى اختلاق صورة مشوهة وكاريكاتيرية للشخصية اليهودية بشكل عام، ظهرت في عشرات الأعمال الدرامية والسينمائية.
ولم يكن المشاهد العربي يجد أمامه سوى صورة تقليدية عن شخصية خبيثة وشريرة، تستطيع مخابرات دولته أن تخدعها وتسخر منها، مع أن الوقائع العملية، كانت تدحض هذه النوعية من التفوق العربي الساذج، الذي قدمته مسلسلات مثل «رأفت الهجان»، فإنها كانت في المقابل تحافظ على حالة من المواجهة الصحية والضرورية، لأن تلك الأعمال أصبحت جزءا من التكوين الوجداني للعديد من الشعوب، فما زالت موجات الحنين تدفع الملايين إلى مشاهدة مقتطفات من مسلسل «رأفت الهجان» تبث على موقع «اليوتيوب»، ويمكن قراءة التعليقات على المسلسل، لتحسس ما تبقى من نبض لدى الشعوب العربية بشكل عام.
لم تذكر هذه المقدمة، كلمة فلسطين أو فلسطيني، وذلك لجزئية مهمة تتعلق بفهم (العدو)، فاليهود قبل إسرائيل وبعدها، يستخدمون ثنائية يهودي ـ عربي، مع أن المنطقي، أن يستخدموا إسرائيلي ـ فلسطيني، أو يهودي ـ مسلم أو يهودي ـ مسيحي، أو حتى يهودي ـ غير يهودي، وينظر اليهود إلى الفلسطيني بوصفه عربيا قبل أي شيء، فمشروعهم كانت فلسطين مركزه ومحطته الأساسية، ولكن امتداده يشمل خرائط أوسع، يقال إنها من النيل إلى الفرات، أما المشروع الاستعماري الذي تحصلت إسرائيل على وكالته، فيمتد على كامل الشرق الأوسط، ويرتاح على غير مبعدة من قناة السويس، ويقتل أي محاولة للنهضة في المشرق العربي القريب من أوربا.
قامت السيطرة الاستعمارية على مبدأ الحد الأدنى من الخسائر والتضحيات، فالأوربيون كانوا على استعداد للموت بالملايين للدفاع عن أراضيهم، ولكن الأمر يختلف عندما يتوجهون للقتال خارج القارة الأوربية، وكانت صفقة تأسيس دولة إسرائيل، تمكنهم من تصدير مشكلة اليهود والسيطرة على منطقة حيوية تعتبر مدخلهم على العالم القديم في الشرق الأوسط، وكان الوزير بلفور معروفا بمعاداته للسامية، ولتخوفه من هجرة يهودية لبريطانيا، كان مستعدا لتقديم أي أرض من الإمبراطورية لليهود، مقابل إبقائهم على مسافة كافية من أوربا، وأتت فلسطين لتكون الحل الذي توافقت عليه الحركة الصهيونية مع القوى الاستعمارية، وكان المطلوب تفريغ الشعب العربي، الذي أخذ يسمى بعد ذلك، وبناء على اتفاقية سايكس- بيكو بالشعب الفلسطيني، من أراضيه.
أنتمي إلى قرية صغيرة في جنوب فلسطين، وبالنظر إلى سكانها خلال القرن الأخير، فهم يتوزعون بين أصول تعود إلى قريش، هاشميين، وقبائل عربية من الجزيرة مثل، الدواسر وبلى، وبعضهم أتى من مصر، وآخرون من شرق الأردن، وبعض من كانوا موجودين سابقا في القرية، هاجروا إلى مصر أو الحجاز قبل الخرائط الحديثة بقليل، وهذه الوضعية نفسها قائمة في معظم القرى الفلسطينية، فهذه الهجرات بقيت ناشطة وموسمية ومستمرة، وبعد ذلك هبطت الحدود على الأرض، وأطلقت التسميات التي كانت تعود لأقاليم جغرافية، ففلسطين لا تختلف شيئا في سياقها العربي عن صعيد مصر، أو نجد أو الجزيرة الفراتية، هي مجرد تكوين داخل فضاء جغرافي أوسع، سكنته الشعوب العربية، واحتضنت معها شعوبا أخرى، تتشارك في قيم العيش الاجتماعي مثل الأكراد والأرمن والشركس والتركمان.
كما قلنا، فالحروب لم تعد مجدية كثيرا، خاصة مع تصاعد قيمة الإنسان الفرد في ظل الحضارة الغربية والمقولات الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، ولذلك فالغزو الثقافي يمثل النقطة الأساسية في الانطلاق، وحققت إسرائيل نجاحا نوعيا، عندما هبطت شخصية اليهودي على الرواية العربية، واستطاعت أن تتسلل من خلال النخب، ليبدأ بعد ذلك القصف الثقيل على مستوى الشعوب العربية، من خلال الأعمال الدرامية، فكان مسلسل «حارة اليهود» قبل سنوات يفتتح موجة جديدة وصلت إلى ذروتها مع مسلسلات مثل «أم هارون»، وتخطى الأمر الترويج لقبول اليهودي أو الإسرائيلي، كما أصبحت الأحاديث تدور عنه صراحة، مقابل تشويه الفلسطيني، أي في تحقيق عملية انتحار ذاتي مبرمج.
لم يتمكن العرب في تاريخهم من بناء رواية سياسية متكاملة، فمواقفهم تفترض عالما هم مركزه، ويفترض أن العالم يتصرف معهم على الشاكلة المتوارثة من أساطيرهم وحكاياتهم الشعبية، وأنه يمكن حدوث مصالحة، كما جرى بين تغلب وبكر بعد حرب البسوس، ويتناسون أن الطرف الآخر يعمل وفق خطة متعددة المراحل، ولا يخوض مواجهة ارتجالية يمكن إنهاؤها بطريقة درامية، ولو كان ذلك ممكنا لتحقق في كامب ديفيد منذ عشرات السنين، فالأمر لن ينتهي بعناق وبكاء على الطريقة الدرامية، وربما لن ينتهي بحرب طاحنة، وينتهي فقط عند وجود مشروع مقابل للمشروع الصهيوني، مشروع نحتاجه ليس في مواجهة إسرائيل وحدها، ولكن نطرحه لتحجيم كل المتنمرين على هذه المنطقة العربية بشكل عام، وهو مشروع يبدو بعيدا، في ظل حالة استمراء المازوشية (الموجهة للذات) وتقطيع الأصابع والأطراف، كما يحدث من مواقف تجاه الشعب العربي الذي يسكن في فلسطين.
هذا المشروع سيجعل تكلفة الاحتلال عالية، وسيجعله يعيد حساباته، أما ما يحدث حاليا فتنازلات مجانية ومبتذلة، ويفترض أن أي قارئ للتاريخ في العقود الأخيرة سيعرف أن كل الأحلام التي بنيت على سلام مع إسرائيل، وترقب نهاية درامية سعيدة يدخل في إطار الأوهام التي ستدفع إلى كوارث جديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى