شوف تشوف

الرأي

العرافون في زمن كورونا (2)

بقلم: الدكتور خالص جلبي
مع كتابة هذه الأسطر خرج إلى السطح عرافون ومنجمون أكثر من الفطر في الغابات، مثل العراف الأردني الملياردير أبو غزالة الذي يتوقع حدوث حرب في بحر الصين، بمنازلة بين العملاقين الأسد الأمريكي والتنين الصيني من (بضعة صواريخ على حد تعبيره!)، أو أبو الخرافة الأعظم (آيك) البريطاني، صاحب نظرية الزواحف البرية التي تتقمص جلود البشر وتتحكم في مصير العباد يسميها الطائفة (Cult)، أو (حسين عمران) الذي يتوقع بعد توقف أداء الصلوات في الكعبة صعود بني إسرائيل للسيطرة على العالم، أو ما حدثني صهري (أبو حميد) ونحن على مائدة الإفطار، أن ثمة إحصائيات دقيقة قام بها الداعية (بسام جرار) الفلسطيني أن نهاية إسرائيل ستكون عام 2022م. قال أتى بها من خلال مقارنات رياضية دقيقة في الآيات. قلت له: «هل تعتقد بذلك؟»، أجابني أمام صدمة السؤال: «50 بالمائة!». أو الزعم الذي أدلى به الشحرور الشامي الذي يرى أن القرآن غير الفرقان وغير الكتاب وغير المصحف وغير الكتاب المكنون، وأن محمدا نزلت عليه نسخ شتى، وأن فواتح السور هي بالتأكيد اللغة التي تتخاطب بها الكائنات في مستوى المجرات، وأن الفجر وليال عشر هي بالتأكيد رواية موثقة عن الانفجار العظيم، قبل 13.7 مليار سنة.
الكل يراهن على أن العالم بعد كورونا سيكون شيئا مختلفا عما كان قبله، كما راهن الكثيرون على أحداث 11 شتنبر، أو النسق التاريخي الذي عرضناه ونتابعه عن انهيار المراهنات من أربعة محاور، والذي حدث أن بريطانيا لم تتحول إلى الشيوعية قط، وانفجرت الثورة الشيوعية وبقوة السلاح والدم والعنف الأعظم في بلد متخلف صناعيا في روسيا القيصرية. وطُحن جيش بايزيد وانهزم في المواجهة العظمى ضد تيمور العجوز البدوي العنيد، في منازلة بين أعظم جيشين في العصور الوسطى، يخوضان العراك محمولين على ظهور الجياد، في معارك دبابات العصور الوسطى، ليسقط في الأسر هو وزوجته، ويتبخر جيشه بددا، ويموت حزينا أسيفا بعدها بأقل من عام، في أسر قفص من الحديد في سمرقند.
ويسجل التاريخ البريطاني زيادة في السكان فعلا؛ فيقفز الرقم من سبعة ملايين إلى واحد وأربعين مليونا، بعد أن هرب عام 1815م  200 ألف؛ ليصل الرقم إلى مليونين ونصف المليون مهاجر عام 1850م، ويكون رقم النزيف البشري بين عامي 1815 و1914م 20 مليون نسمة. وتتوقف طبول الحرب في الكويت، واستطاعت التقنيات المتقدمة إطفاء الحرائق بطرق فنية بارعة؛ بخنق فوهات الحرائق، ولا يظهر أثر لشتاء نووي مع امتداد فترة نفث السخام الأسود إلى السماء، ويخسر البيئي الألماني الرهان.

النجاة من الفخ المالتوسي بثلاثة قوارب
الذي أثبته التاريخ أنه لا الدوغمائية ولا الإيديولوجيات، أو توجيه الحياة بنظام الحزب الواحد كما هي في الأنظمة الخائبة المتبقية من الجيوب الستالينية في بورما وكوريا وسوريا، وإنشاء الأنظمة الكليانية الشمولية، لم تكن يوما مفتاحا لفهم التاريخ؛ فضلا عن حل مشكلاته، وجاء الخبر من التاريخ؛ فسقطت الإمبراطورية اللينينية الستالينية في أقل من جيلين؛ وخسر ماركس المراهنة التاريخية.
والذي أثبته التاريخ أن ما قبل السقوط تشتد الكبرياء وجنون العظمة والاتكاء على الاسم القديم اللامع والتاريخ الرائع، كما كنا نردد عندما كنا مراهقين تلك الأدبيات المنمقة المطمئنة التعويضية: (سلوا عنا ديار الشام ورياضها، والعراق وسوادها، والأندلس وأرباضها. سلوا عنا حفافي الكنج وضفاف اللوار ووادي الدانوب. إن عندهم جميعا خبرا من بطولاتنا). فتمزق جيش (بايزيد) شر ممزق وجُعلوا أحاديث يتناقلها الركبان، وتنفست أوربا الصعداء، وولد جنين الحضارة الغربية من عبقريات ديكارت وسبينوزا وشيلر وغوته، الملقح بنطف الحضارة العربية الإسلامية، ينتظر قدره الجديد.
الذي أظهره التاريخ عن توقعات مالتوس أن عدد سكان بريطانيا زاد أربع مرات، ولكن الناتج القومي ازداد 14 مرة (أربع عشرة)، مما جعل عالم الاقتصاد البريطاني عام 1865 م (جيفونس JEVONS) يقول في تقريره الذي قدمه للملكة فيكتوريا مباهيا: (سهول روسيا وأمريكا الشمالية هي حقول قمحنا، شيكاغو وأوديسا هي مطاحن غلالنا، كندا والبلطيق غابات أخشابنا، أستراليا مراعي خرافنا، أودية أمريكا الغربية مراعي أبقارنا، مناجم البيرو تغدق علينا الفضة، أستراليا وجنوب إفريقيا مناجم لذهبنا، الهندوس والصينيون يزرعون لنا الشاي والقهوة، الأنديز وكوبا تزرع لنا السكر، إسبانيا وفرنسا عرائش أعنابنا، بلدان البحر المتوسط حدائق ثمارنا. أما القطن الذي زرعناه في جنوب الولايات المتحدة فقد امتد الآن إلى جميع مناطق الأرض الدافئة).
الفرق بسيط للغاية بين الأدبيات التي كنا ندندن بها وما قاله جيفونس، أننا كنا نتحدث عن ماض زاهي أمام واقع بئيس، وجيفونس يتحدث عن واقع ممتلئ أمام ماض بئيس، النقلة فقط في مواقع العبارات!
الذي مكن بريطانيا من الإفلات من فك تمساح مالتوس ثلاثة قوارب للنجاة: الهجرة الكثيفة، والثورة الزراعية، والتحول الصناعي؛ عندما تحولت بريطانيا إلى مصنع للعالم، بتفاعل ديناميكي بين العلم والصناعة، وخسر مالتوس الرهان التاريخي.

التنبؤ بسلوك الإنسان وحركة التاريخ
الذي يستنتج من كل هذه المراهنات التاريخية، أن كل التفسيرات والتنبؤات لسلوك الإنسان وحركة التاريخ تقصر وتتكسر عند قدمي الإنسان، ولا يعني هذا أنه لا توجد ميول عامة، أو توجهات مشتركة، أو رؤى يمكن من خلالها الوصول إلى بصيص من وعي تاريخي، ولكن محاولة الادعاء بالإمساك بالحقيقة الحقيقية النهائية، والتفسير النهائي للتاريخ ونهاية التاريخ، كلها تشكل فخاخا ومطبات وتوقفا للجهد الإنساني، في فهم الجدلية العميقة لحركة التاريخ، ومنها النظرة للمستقبل التي نعالجها الآن. ومنها الخرافة التي تطلقها مواقع إعلامية هنا وهناك. ومنها الذي أطلقته مجلة «دير شبيغل» الألمانية يومها وهي تختتم عام 2009م، أن العالم سيتابع النزاع الأبدي بين محمد والمسيح.
ألا إنهم من إفكهم ليقولون…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى