العرافون زمن كورونا (1)
بقلم: الدكتور خالص جلبي
مع كتابة هذه الأسطر خرج إلى السطح عرافون ومنجمون أكثر من الفطر في الغابات، مثل العراف الأردني الملياردير أبو غزالة، الذي يتوقع حدوث حرب في بحر الصين بمنازلة بين العملاقين الأسد الأمريكي والتنين الصيني من (بضعة صواريخ على حد تعبيره)، أو أبو الخرافة الأعظم (آيك) البريطاني، صاحب نظرية الزواحف البرية التي تتقمص جلود البشر وتتحكم في مصير العباد يسميها الطائفة (Cult)، أو (حسين عمران) الذي يتوقع بعد توقف أداء الصلوات في الكعبة صعود بني إسرائيل للسيطرة على العالم، أو ما حدثني صهري (أبو حميد) ونحن على مائدة الإفطار أن ثمة إحصائيات دقيقة قام بها الداعية (بسام جرار) الفلسطيني، أن نهاية إسرائيل ستكون عام 2022م. قال أتى بها من خلال مقارنات رياضية دقيقة في الآيات. قلت له: «هل تعتقد بذلك؟»، أجابني أمام صدمة السؤال: «50 في المائة!». أو الزعم الذي أدلى به الشحرور الشامي الذي يرى أن القرآن غير الفرقان وغير الكتاب وغير المصحف وغير الكتاب المكنون، وأن محمدا نزلت عليه نسخ شتى، وأن فواتح السور هي بالتأكيد اللغة التي تتخاطب بها الكائنات في مستوى المجرات، وأن الفجر وليال عشر هي بالتأكيد رواية موثقة عن الانفجار العظيم قبل 13.7 مليار سنة.
نحن إذن أمام تجربة غير صحية ومزعجة وصادمة للوقوف على أخبار الروايات، كما يقول ابن خلدون في المقدمة.
جاء في الإنجيل احترزوا من الأنبياء الكذبة. يأتونكم في ثياب حملان ومن الداخل ذئاب خاطفة! قالوا: يا معلم وكيف نعرفهم؟ قال: من ثمراتهم تعرفونهم! هل يجتنى من شجرة التين حسكا، أم تعطي شجرة الحسك تيناً؟ قالوا: لا. قال: تعرفون الشجر من الثمر، وكذلك تعرفون الأنبياء الكذبة من ثمراتهم. وفي القرآن فقرات تمشي في الاتجاه نفسه؛ «فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون فاستمسك بالذي أوحي إليك». وحين نزلت الآية: «سيهزم الجمع ويولون الدبر»، طفق عمر يتغنى بالآية ويردد ويكرر بصوت مسموع أي جمع وأي دبر؟
نحن الآن في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين من الألفية الثالثة للميلاد. وقد ختمت مجلة «دير شبيغل» الألمانية العام 2009م بالعدد 52 بعنوان لا يدعو للراحة مطلقا؛ النزاع الأبدي بين الإسلام والمسيحية (Islam und Chrisrtentum: der ewige zwist)، وأنه سيكون السؤال المحوري لهذا القرن، بل رسمت العنوان مع صورة قبيحة وعنوان أقبح: من هو الرب الأقوى للدينين؟
(Wer hat den staerkeren Gott). إنها روح الصليبية القديمة وإذكاؤها بخبث تحت ستار من العلمانية! أليس كذلك؟ ولكن التنبؤات هي غالبا من أعمال الأنبياء الكذبة، كما كذب سبعة من المنجمين في مجلة «دير شبيغل» في هذا البحث الذي امتد على مدار 11 صفحة. علينا أن نمد أعيننا أبعد من سخف هذا الكلام وتحريضه الأسوأ في الإنسان، ونستعرض تجربة التاريخ، ومصير الأنبياء الكذبة!
لقد شهد الربع الأخير من القرن الثامن عشر ثلاثة أحداث مصيرية: استقلال الولايات المتحدة الأمريكية في أعظم تجمع أوربي خارج أوربا عام 1776، بعده بـ 13 سنة انفجرت الثورة الفرنسية عام 1789 م، وقبل أن ينتهي القرن بسنتين صدر بحث قصير بعنوان غير مثير لقس مغمور، أحدث زلزالا في التفكير، وأطلق شحنة من الذعر والتشاؤم، وأسس مدرسة تطورت مع الوقت، وترك الكتاب بصماته ولا يزال على محطات التفكير الإنسانية ومدارس شتى من الحقول المعرفية!
الكاتب هو طوماس مالتوس، والكتاب هو «بحث في تزايد السكان وأثره في مستقبل نمو المجتمع».
أربع مراهنات تاريخية
راهن كارل ماركس في إصرار إيديولوجي على انفجار الثورة الشيوعية في بريطانيا، حسب تفسيره المادي للتاريخ، وراهن السلطان العثماني بايزيد على قهر أعظم قوة تقف في سبيله، عندما توجه إلى سهل أنقرة عام 1402م، لمواجهة العاصفة التترية بقيادة تيمور الأعرج، وراهن مالتوس على مجاعات وحروب ستطوق القدر الإنجليزي في أجل غير بعيد، وراهن عالم بيئي ألماني نشرت مجلة «الشبيغل» الألمانية دراسته مع حرائق الكويت في حرب الخليج الأخيرة، على حدوث شتاء نووي! كما هو الحال مع العنوان اللئيم من مجلة «دير شبيغل» الألمانية!
اعتمد كارل ماركس الجدلية المادية وسيلة لتحليل التاريخ؛ فأقسم بيقين مرعب على انفجار الأوضاع باستيلاء طبقة البروليتاريا (الصعاليك) على الحكم، وإلغاء الطبقات، ومحو الدولة، وإنهاء جدل التاريخ، بعد أن وصل التاريخ إلى نهايته، (كما تنبأ النبي الكذاب الآخر من هارفارد فرانسيس فوكوياما) بدءا من العصر الشيوعي البدائي، مرورا بالزراعة والإقطاع والرأسمالية، ليعود كما بدأ أول خلق البشرية إلى الشيوعية من جديد.
ولم يشك السلطان العثماني لحظة واحدة أنه سيهزم (تيمور التتري) العجوز المنهك لجيش قادم منهك من آسيا الوسطى من سمرقند ليقاتل فوق أرض غير أرضه، بعد أن تمكن بايزيد من سحق جيش أوربي عرمرم، جندته الأمم الأوربية تحت استغاثة وتوسلات البابا؛ بما يشبه فعل (الصاعقة) في (نيكوبوليس NICOPOLIS) من أرض بلغاريا عام 1396م، لتسقط بلغاريا بعدها تحت السيطرة العثمانية لفترة 512 سنة حتى عام 1908م.
وبنى (مالتوس) تحليله على وقائع مروعة، لعدد سكان بريطانيا، الذي يتضاعف كل 25 سنة من رقم 7 ملايين، ليصبح في نهاية القرن قريبا من 112 مليونا (7 ـ 14 ـ 28 ـ 56 ـ 112) في فخ كوني مرعب لا فكاك منه ولا خلاص، من عدم تناسب زيادة إنتاج الأرض بما يناسب هذا الرقم الخرافي البشري! وهو المبدأ الذي أطلقه عن عدم تناسب زيادة السكان بسلسلة هندسية مقارنة بتزايد الإنتاج الغذائي بسلسلة عددية (1ـ 2 ـ 4 ـ 6 ـ 8 ـ 10 ـ وهكذا)، مما سيفضي بشكل يقيني الى كارثة تحصد البشر في ثلاث صور: المجاعات ـ الحروب ـ الأوبئة، فالطبيعة تتصرف بما توازن به نفسها! كما هو حاليا من فكرة شيطانية عن المليار الذهبي.
وبنى عالم البيئة الألماني حكمه على مقدار السخام وهباب الفحم، الذي سيصعد مغطيا الأفق، وحركة السحب وامتداد الغمامة السوداء عبر الملكوت؛ لتلف بدخانها وقتامها الأسود الكرة الأرضية.