العام الميلادي الجديد
بقلم: خالص جلبي
دخلنا السنة الجديدة فيكون بذلك مر عام من حياتنا واقتربنا من الموت عاما، ثم أتذكر القانون الكوني الساحق الماحق، وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون؟ وأتذكر القانون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين. وأن مقتل آدم جاء من الإغواء المضاعف: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟ فأكلا منها فسرى عليهما قانون الفناء فماتا، وماتت من بعدهم أجيال لا حصر لها من البشر، فكم أكل التراب من وجه عتيق وحسن رقيق وجمال خالد وصورة رائعة ودماغ متألق ونفس كريمة ويد سخية وشجاعة أبية فطوت القبور محاسن الصور، ونادى مناد أليس فيمن مضى معتبر؟ يبدو أننا لا نتعلم الحياة من الآخرين، بل نتعلمها من خدوشنا ومن كل ما يبقى منا، بعد سقوطنا ووقوفنا. إن وجودنا فان على وجه الأرض، فما هو إلا وجود مسافر في صالة ترانزيت! ألا ترى معي أن هذه الدنيا بأكملها ليست سوى قاعة انتظار كبيرة، لا تستحق أن يقتل الناس بعضهم؟ إنها قاعة يحل فيها المسافر قادما من حيث لا يدري، ويقضي ساعات فيها يحب ويضحك ويقاتل ويبكي ويكتب الأشعار ويشتري بعض مقاعد الصالة، ثم فجأة ينادون باسمه، ولا يملك إلا أن يطيع مهما كانت أهمية ما يفعله، ويمضي إلى حيث لا يدري… يذهب عاريا إلا من كفن أبيض، ويشيعه محبوه من نوافذ الصالة باكين أو شامتين.. ثم ينسونه… إن توديع العام جدير أن يقف الإنسان فيه فيراجع حساباته، قبل أن يقدم على الله، وهي مناسبة يتذكر فيها المصائر والمعابر، وسر الوجود والفناء، إن لاح له منه شبح من معنى، ومغزى الدنيا وضجعة الموت والعمل الصالح والصحبة الأنيسة والزوجة الوفية.. نعم إنني أتذكر ولا أكاد أصدق.. لقد كنت أتدفق بالحياة واستقبالها، والآن أفكر في الدنيا وإدبارها.. فماذا أتمنى مع عام جديد، يعني القضاء على العمر بجزء جديد، ونهاية حتمية، فوق ما مر، وشيخوخة إليها ندلف، وعجزا يعتمرنا ولربما سيئات تطمرنا.. فلا يعرف الإنسان هل امتداد الحياة خير أم شر؟ ونمد له من العذاب مدا، أم يحشر مع المتقين إلى الرحمن وفدا؟ نحن ندخل في عام 2022، والجنازات تزحف إلى قبور تبلع، وشباب يدفن في غير وقته، في جو مجنون من الصراع الإنساني على الأرض والتاريخ، ولكن هل يوجد أكثر قداسة من الإنسان؟ إنها أيام مجنونة بحق.. كنا نتفاءل مع دخول القرن الحادي والعشرين بمزيد من السلام، ولكن العالم مجنون متوتر لا يشرب فيه 600 مليون الماء النظيف، وعدد المليارديرات يرتفع إلى 583، وكانوا قبل سنوات قليلة في حدود 300 من الهوامير، بقدر تدفق جماهير لا نهاية لها إلى الفقر، ففي مالي 60 في المائة من الشعب دخل الفرد اليومي أقل من دولار واحد.. فما هذا العالم البئيس الذي نعيش فيه؟ وقرأت أن عدد المواليد في بلد ثوري للعام الفائت كان 600 ألف، فقلت أفواج جديدة للفقر والديكتاتورية والتخلف. وقل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل تقرير سري، ومن شر كل حرامي في ملابس شريفة أنيقة، ومن شر كل منافق عليم اللسان، ومن شر كل موظف مرتش باع نفسه للشيطان. لقد أرسلت إلي سيدة فاضلة من المغرب، تسألني ماذا يتمنى الإنسان لنفسه مع دخول العام الجديد؟ وأنا فركت عين الغفلة والوسن، فقلت حقا ماذا تتمنى يا خالص مع العام الجديد؟ هل مالا أكثر، أم علما أفضل، أم فهما أرشد، أم شهرة تزداد واجتماعات لا تنتهي، أم راحة البال وهدوء الضمير، وفهم الحياة بمنظار جديد، وفكرة وافدة، وخاطرة تقود إلى الهدى وطريق مستقيم؟ في تقديري أن الناس يزحفون ليل نهار، يريدون تحقيق ذواتهم بطرق شتى، من منصب ومال ونفوذ ومركز ومتعة وتسلية والانخراط في الحياة بما ينسى الإنسان نفسه فيها. ولكني لعلي أقول يا رب: إن كانت الحياة خيرا فزدنا وإلا فخذنا، ولكن لا تجعلني من أشقى خلقك فتحرمني أن أرى ملهمتي في ذلك العالم، الذي أنا عليه قادم ولا أعرف عنه شيئا في خريطة وبوصلة ومعلومات، لأنني كلية سوف أمحى فلن يبقى مني سوى ذكريات، إن بقيت، وربما في الإنترنت، وقبضة من عظام نخرة وتراب وبرنامج كمبيوتر وذاكرة الله أعلم بها… أين ستصير…. ثم أتابع رحلة خيالي فأقول إن قدرت علي الموت، فليكن بأقل قدر ممكن من الألم وبأسرع زمن.. ثم أتابع خيالي فأقول إن ذنوبي لا تحصيها كتب، وهي في معظمها من الهنات والصغائر فلم أرتكب كبيرة في حياتي، ولكن تراكم الصغائر سيقذفني في جهنم، فعاملني يا رب بالرحمة فوق العدل وأنت أرحم الراحمين.. ثم ألتفت إلى جموع المعذبين في الأرض، فأطلب من الرب قذف مفاهيم السلام في قلوب العباد، كي يكفوا عن الاقتتال.. ثم أتأمل الحياة فأراها رحلة إلى الرب، فأطلب منه فيها ثلاثا؛ علما يوصلني إليه، وطاقة جسد لا تخذلني في الحياة، وكفاية في الرزق لا تضام.. يا رب رحمتك.. أو كما قلت يوما في منام، وأنا رهن الاعتقال: «دخيلك يا الله…»، فجاء الفرج وأفرج عني، بعد اعتقال دام شهرين، قضيت منها 54 يوما في المنفردة، وهي القبر والدفن قبل القبر والدفن.
نافذة:
توديع العام جدير أن يقف الإنسان فيه فيراجع حساباته قبل أن يقدم على الله وهي مناسبة يتذكر فيها المصائر والمعابر وسر الوجود والفناء