شوف تشوف

الرأي

العالم يرجع إلى الخلف

سامح راشد
تغيرت حركة التاريخ مرات عدة. وفي كل مرة كان التغيير يحدث فجأة، ويأخذ العالم بغتة، بعد أن يظن الإنسان أن لا جديد يُنتظر، وأنه وصل إلى أقصى درجات السيطرة والتحكم في صيرورة الكون، جمادا وبشرا. لم يعد هناك شك في أن العالم مقبل في القريب العاجل على مزيد من المركزية، وتوسيع دور الدولة. بما يدعو إلى إحياء المراجعات النقدية لمقولات الليبرالية الجديدة، خصوصا فكرة «الحد الأدنى من الدولة». وسيمتد أثر هذا التوجه، إلى الحد من ظاهرة الاعتماد المتبادل وإعادة النظر في قواعد تقسيم مراحل التصنيع ومعايير الميزة النسبية، بأن تتجه الدول إلى امتلاك بعض مراحل التصنيع أو التوطين الكامل لإنتاج بعض السلع، بما يكفل قدرا من الاستقلالية والاكتفاء، سواء بشكل كامل في بعض السلع، أو بصورة جزئية في أخرى.
في المقابل، ستعود الدولة، طوعا أو كرها، إلى أدوار كانت تخلت عنها بفعل المد النيوليبرالي، مثل التعليم والصحة والخدمات العامة. وهو ما يعد تصحيحا لأوضاع خاطئة جعلت صحة الناس وتعليمهم ومعاشهم تحت رحمة معادلات الربح والخسارة وآلية السوق. كما يتوقع أن تشهد الساحة الفكرية والسياسية في أعتى الدول الرأسمالية عودة أفكار وطروحات العدالة الاجتماعية والإنصاف في توزيع الثروة والحقوق المتساوية في المعرفة والصحة والتعليم، وإحياء لها، في ما يمكن تسميته العودة إلى «الأنسنة» في العالم.
ربما تنقسم العولمة إلى عدة عولمات جزئية، يعتمد بعضها التكتلات الإقليمية قوامها ونطاقها الأساسي. وبعضها نوعي يرتبط بالمجالات الأكثر احتياجا للاعتماد المتبادل في ما بين الدول، أي سيشهد العالم عولمات جغرافية وأخرى وظيفية.
يشهد العالم من قبل كورونا فراغا في القوة. سيسمح تدريجيا بظهور فاعلين جدد في العلاقات الدولية. ربما دول وربما تكتلات إقليمية أو تحت إقليمية. لكنها لن تكون تكتلات فوق إقليمية، بسبب تعدد الخلافات بين الدول الكبرى وتعمقها، والذي انعكس بوضوح في ضعف المنظمات الدولية وشللها أمام وباء كورونا، ليعري تماما هذا الضعف، ويثبت بشكل قاطع فشل تلك المنظمات الدولية.
لذا، ثمة فرصة كبيرة ومتسع لظهور فاعلين دوليين جدد، أو اكتساب فاعلين قدامى زخما وقوة دفع جديدة. ويشمل ذلك دولا وتنظيمات أو تكتلات إقليمية، بالمعنيين الجغرافي والوظيفي. وسيكون حصاد أزمة كورونا وطبيعة الخروج منها وشكله المحدد العام لهوية أولئك الفاعلين الجدد. ليس بالضرورة بمعيار كفاءة إدارة الأزمة نفسها، والنهوض بعدها في المدى القصير. ولكن أيضا وفقا لمعدل المبادأة والتقدم سريعا إلى الاستفادة من الفراغ الكبير واحتلال مساحة منه. ويتعلق هذا تحديدا، وبشكل أساسي، بالتكتلات والتحالفات القائمة أو أخرى يمكن تشكيلها في ضوء التقييم الشامل للأزمة، بأسبابها وأبعادها وتداعياتها. مثلا، على الرغم من أن تكتلا مثل «BRICS» لم يحقق حتى الآن طموحات دوله في التحول إلى قوة عالمية كبرى، وتكتل قادر على مواجهة الدول الصناعية الغربية، إلا أن مرحلة ما بعد كورونا تعد فرصة سانحة أمامه لتحقيق هذا الهدف، وربما التقدم إلى أكثر من ذلك، بوصفه تكتلا وتحالفا وظيفيا متنوع المجالات.
لا تختلف هذه الصورة المتوقعة للعالم بعد كورونا كثيرا عن ملامح المشهد العالمي في ما بين الحربين العالميتين، وكذلك في ما بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصا فترة الحرب الباردة في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، حيث الاستقطاب على أشده، والكلمة العليا للحكومات والسلطة المركزية للدولة. ربما لا تنتهي تماما الحريات والظواهر التي صاحبت العولمة، لكنها بالتأكيد ستتراجع وتصير مقيدة، وربما مشروطة بقواعد وآليات تضعها الدول منفردة. ليعود العالم، في عام 2020 وما بعده، إلى أوضاع خلت قبل خمسين عاما، وربما أسوأ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى