العالم يحصد ما زرعه
علي محمد فخرو
هل استطاع وباء فيروس كورونا إقناع حكومات العالم ومروجي الفكر النيوليبرالي بخطأ أفكارهم وسياساتهم، بشأن أهمية وضرورة الخدمات الاجتماعية العامة، التي آمنوا بها كعقيدة سياسية واقتصادية، واتبعوها منذ ثمانينيات القرن الماضي؟
نحن هنا بالطبع معنيون بالخدمات الصحية العامة، التي بررت ذلك الفكر، ونفذت تلك السياسات كارثة إقصائها من قائمة أولويات الدولة، وتسليمها شبه الكامل للقطاع الخاص. وهنا، في فضاء القطاع الخاص، حكمتها شعارات الربح، وقيم المنافسة، وعدم عدالة التوزيع، ورذيلة تجاهل المهمشين والفقراء. لكن الدولة نفسها التي شربت من ثدي أمثال مدرسة شيكاغو النيولبرالية وعرابها الأشهر ملتون فريدمان، بل تنافست مع ذلك الفكر الرأسمالي النيوليبرالي العولمي المتوحش، في مدى إنزال أهمية وضرورة الخدمات الاجتماعية، ومنها الصحية، إلى آخر قائمة الأولويات في الحياة العامة، هي الدولة نفسها التي صرفت ببذخ مبتذل على الخدمات العسكرية والمؤسسات الأمنية والاستخباراتية، وعلى كل مظاهر الترف الرياضي المجنون والفني الهابط والإعلام المسطح المبتذل، وفي المدة الأخيرة على موضة الميليشيات العنفية المعروضة في أسواق النخاسة والدين المزيف.
ولذلك لم يكن بمستغرب لأن يصرف على لاعب كرة أكثر مما يصرف على مئات الأطباء، وأن تحظى مغنية من الدرجة الخامسة على دخل أكثر من دخل مئات المعلمين والمعلمات. في مفهوم النيوليبرالية ما يجب أن يهم الدولة هو حركة المال، وليس حركة صحة وثقافة وعلم المجتمع. أمام تلك الأخطاء والخطايا التي مورست خلال الأربعين سنة الماضية، هل كان بمستغرب أن تواجه الأنظمة والمؤسسات الصحية العامة، المهملة والمهمشة، وباء كورونا بالعجز أو التخبط أو الكذب أو بقوى عاملة محدودة العدد والكفاءة؟ أو أن تقف المؤسسات الطبية الخاصة موقف المتفرج؟
وكان لافتا للنظر غياب اجتماع دولي مشترك لوزراء الصحة، حال انتقال الفيروس من الصين إلى أوائل البلدان الأخرى، بالتنسيق مع أجهزة منظمة الصحة العالمية، لوضع سيناريوهات تنسيقية تضامنة متعاونة مشتركة، للوقوف في وجه الوباء، وتخطي الأنانيات الوطنية عند البعض، وهشاشة القدرات الوطنية عند البعض الآخر. لقد كان واضحا أن وباء دوليا لم يواجه بموقف وجهد دولي، وأن التبجح بشعار العولمية كان تبججا لا ارتباط له بالشعور بالإنسانية المشتركة. وكان مفجعا أن أغنياء العالم، الذين كدسوا ثروات هائلة، إبان هذا العصر العولمي الذي نعيشه، ونشروا بألف وسيلة ووسيلة مبدأ تقليص دور الدولة، وإلى أبعد الحدود، في تقديم الخدمات الاجتماعية، لم يتنادوا حتى لتكوين صندوق إغاثة عولمي واحد، لمساعدة المجتمعات الفقيرة في تصديها لهذا الوباء. كل ما فعلوه هو أنهم عزلوا أنفسهم وأهليهم في يخوتهم وقصورهم، بانتظار أن يواجه الفقراء هذا الوباء، لتعود أنشطة البورصات المالية إلى سابق عهودها الذهبية، وليعاودوا المضاربات ونهب المال السهل. هذا حكم قاس ولكن يجب أن يقال.
وإذا كان عالمنا يعيش في تخبط وفوضى من جراء وباء فيروسي، سيكون محدود التأثير ومحدود البقاء معنا، فما الذي سيفعله عندما يواجه في المستقبل غضب الطبيعة التدميري، الذي يهيئ له بسياساته الاقتصادية والمعيشية الحمقاء، التي يمارسها بصلف واستهتار؟ هذا يجب أن يطرح أسئلة صريحة لا غمغمة فيها ولا ثرثرة من مثل: هل سيراجع العالم المنطلقات الفكرية، وعلى الأخص الاقتصادية منها، التي فرضتها قوى متحكمة أنانية، على العالم كله تحت شعارات للأيديولوجية النيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة، ويعود على الأقل، إلى دولة الرعاية الاجتماعية التي ارتضاها لنفسه بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الأخص مسؤولية الدولة في القيام بالخدمات الاجتماعية، من مثل الصحة والتعليم والسكن والعمل؟
هل سيعيد العالم النظر في النظام الديمقراطي، الذي ركّز في ممارسته على الجوانب التنظيمية السياسية، وأبعد بإهمال متعمد ربطه بمبادئ العدالة في الاقتصاد والاجتماع والثقافة؟ وبالذات هل سيوقف اتساع الهوة المتعاظم بين الغنى الفاحش والفقر المدقع؟
هل ستكون لدى العالم الشجاعة على تطعيم وإغناء الليبرالية بكل ما هو إيجابي وإنساني في الفكر الاشتراكي؟ وهل سيوقف حساسيته المفرطة البليدة تجاه العمل السياسي الديمقراطي اليساري الملتصق وجوديا بمدى قوة النقابات، واتساع الطبقة الوسطى الواعية، وتجذير تحرر المرأة من قيودها التاريخية؟ وبالطبع فإن الأسئلة نفسها تتوجه إلى مجتمعات وطننا العربي، الذي كان أكبر ضحية لذلك التيه والضياع الذي نشره الآخرون في كل ربوعه، من دون مراجعة من قبله أو مقاومة تذكر.